كانت فضيحة أدبية سياسية قد ملأت الأجواء فى باريس فى أوائل تسعينات القرن الماضى.. بطلها هو محمد مزالى، رئيس وزراء تونس الأسبق، وصاحب مجلة «فكر»، ورئيس اتحاد الكتّاب التونسيين أيضاً!
فقد أحنق بعض المسئولين التونسيين الدعوات التى تنهال على محمد مزالى من كل الجمعيات الأدبية والسفارات الأجنبية وحضور مزالى هذه التجمعات الثقافية والسياسية، فأرادوا «شيطنة» هذا الرجل بحيث تزهد هذه التجمعات فى دعوته ضمن هذه التجمعات!
يروى الرجل دون حياء فى مجلته الدولية التى كانت تصدر فى ذلك الوقت فى العاصمة الفرنسية أن بعض المسئولين التونسيين قد زرعوا فى طريقه سيدة تونسية على قدر من شباب وجمال راودته عن نفسه وحددت فندقاً معيناً للقاء حميمى بينهما.. ثم قاموا بتسجيل هذا اللقاء الحميمى على كاسيتات قاموا لاحقاً بتوزيعها عل كافة السفارات الأجنبية والتجمعات الثقافية. وقرأت فى حينها أن مزالى أسقط فى يده من هول المفاجأة، واعترف بالواقعة قائلاً: إن خصومى كستونى -أى قاموا بتنسيق مع إدارة الفندق بتسجيل لقائى الحار عارياً- مع السيدة التونسية على كاسيت لكى أكف عن الكلام وأصمت!!
كنت أعرف هذه الفضيحة الثقافية السياسية حتى وجدتنى وجهاً لوجه أمام محمد مزالى الذى كان بصحبة سيدة شقراء ويهبطان من سيارة فاخرة على قارعة جادة جورج الخامس التى كنت أسكن بالقرب منها!
وأقول الحق، لقد كان يشغلنى سؤال أدبى هو: لماذا يكتب الكاتب وكيف يقرأ باعتبار أن القراءة فن لا يعرفه إلا القليلون.
هرعت نحو محمد مزالى الذى كنت أعلم أنه أديب لا يُشق له غبار، فهو صاحب مجلة «فكر» التى كان يرأس تحريرها وزير الثقافة التونسى السابق البشير بن سلامة، ثم هو مؤلف كتب فى دروب الفكر وعالم المعرفة.. المهم أن الرجل رحب بالفكرة ووعدنى أن يبعث لى بإجاباته التى أسجلها هنا لأول مرة.
لماذا أكتب؟
يقول محمد مزالى الذى اعتبره أحد كبار المستشرقين الفرنسيين، وهو روجيه أرنالديز، أحد كبار الفلاسفة العرب المعاصرين: إنه سؤال قد يجد القارئ الكريم جواباً له فى مقدمة كتابى «فى دروب الفكر» الصادر عام 1979. هذه، أيها القارئ الكريم، «معالم أخرى» أضعها فى طريقك ألقاك بها وتلقاك بعد أن كانت سعت إليك كتبى من وحى الفكر و«مواقف» و«دراسات» و«وجهات نظر»، فحفلت بها ورحبت، ورأيت فيها صورة بيّنة الملامح بعيدة الأفق لنضال دأبت عليه سنين طوالاً، وما زلت مساهماً فى إيقاظ الهمم واستنهاض العزائم وفتح البصائر ودعوة أهل الفكر من أبناء أمتنا إلى تكسير أغلالهم وتفجير طاقاتهم وتسخير قواهم لخدمة ثقافتهم ومعالجة قضاياهم وإنارة شعوبهم.
لقد حاولت يا قارئى الكريم أن أخرج بين يديك قضايا هى قضاياك، وأن أثير مشكلات هى مشكلاتك، وأن أجابه متناقضات هى متناقضاتك، وأن أواجه تساؤلات هى تساؤلاتك، وأن أقف من الوجود مواقف دعوتك إلى التفكير فيها بكل جدّة، ورجوتك إمعان النظر فى أبعادها بكل صبر، ومعالجتها بكل شجاعة.
ولقد كان ديدنى فى كل ذلك أن أكون معك صريحاً، إذ كنت أطمح بآمالى إلى أن أفيد قومى وشباب بلادى، وأن أعرض عليهم مآسينا وقضايا عارية كيوم الحساب، وأن أصدع بما أعتقده الحق غير مكتف بعرض القضايا دون خلوها، بل كنت أدعو إلى إعمال الفكر وإيثار الصدق والاعتبار بما يجرى فى غير دارنا.
وهل التفتح شىء آخر غير الاعتبار أساساً بما يقع حولنا وفى ظروف حياة تشبه ظروفنا؟
فلا تطمعنّ إذاً أيها القارئ الكريم فى أن تجد فيما أقدمه لك أدباً إبداعياً يجنح بك إلى الخيال ويدعوك إلى التأويل.. ويسمو بك أو ينزلق إلى ضرب من التسابيح والتجليات الصوفية، بل لقد سلكت إليك أسلوباً واضح العبارة فصيح الإشارة، لم أركب فيه مركب الرمز أو الغموض، ولم ألجأ إلى المداورة والالتواء رجاء النفاذ إلى نفسك بلا تأشيرات ولا مسوغات وإقامة حوار معك..
أما السؤال: كيف أقرأ؟
فإجابتى هى أننى أطالع بنهم كبير وإقبال شديد كلما استحسنت كتاباً أو استجدت مقالاً فى مجلة أو جريدة. إن المسئوليات الجسام التى تحملتها طيلة ثلاثين عاماً منذ استقلال تونس إلى سنة 1986 حالت دون قراءة كل ما كنت أود مطالعته من أدب رفيع نثراً وشعراً، أو من دراسات تاريخية وأبحاث حضارية عربية وأجنبية. وأشعر اليوم بأن ما فاتنى فى مجال الثقافة لا يمكن تداركه لأن عملية النشر فى نمو متزايد، وعلىّ واجب انتقاء أغزر ما يُنشر اليوم فائدة وألصقه باهتمامى.
ثم يختم محمد مزالى، رئيس وزراء تونس الأسبق، حديثه الذى كان أشبه بالنجوى قائلاً فى صوت مشبع بالمرارة:
لقد أصبحت فى منفاى منذ سنوات أشد حباً للكتاب وأطول معاشرة له وأكثر اعتماداً عليه لتجاوز الوحدة والوحشة وتعميق وعيى للناس والحياة.
هذا ما كتبه محمد مزالى فى تسعينات القرن الماضى، ولقد لاقيت عنتاً فى خطه وطريقة كتابته، واستطعت فك الطلاسم.. فهناك حروف لا نعرفها فى مصر، بينما يعرفونها ويضعونها فى تونس.
وعلى أية حال إن الجيل الجديد من الشباب فى مصر لا يعرفون الأديب التونسى الكبير محمد مزالى الذى كان رئيساً لوزراء الحبيب بورقيبة مع أنه كان ملء السمع والبصر، لكن هذا الحصار المفروض على أدبه إنما هو من عمل السياسة ألا لعن الله السياسة وسائس ومسوس وكل ما اشتُق من فعل ساس، كما قال الإمام محمد عبده!!