«زبيجنيو برجينسكى»، مستشار الأمن القومى فى إدارة الرئيس «جيمى كارتر»، الذى -وفق الحلقة السابقة من هذه السلسلة- وضع الأسس الرئيسية لعملية صناعة وإطلاق ما سُمّى خداعاً وتزويراً فى الاسم والمضمون «الجهاد الإسلامى». ظل الأمر غامضاً وغير مفهوم طوال «الثمانينات» من القرن الماضى، حول البزوغ السريع وقدرات تلك التنظيمات المسلحة، التى ما إن وضعت أقدام رجالها الأوائل فى أفغانستان حتى تحولت إلى كيانات عملاقة قادرة على عمليات الجذب والنقل لـ«الأعضاء المقاتلين»، ومن ثم إعاشتهم والإنفاق على متطلباتهم وتسليحهم، لخوض المعارك الاستنزافية ضد القوات السوفيتية كما جاء بخطة برجينسكى التى أفاض فى شرحها وتوزيع مهام تنفيذها بمقر «وكالة الاستخبارات المركزية CIA» فى مدينة «لانجلى» بالقرب من العاصمة واشنطن.
لم يخلُ أمر الغموض الأولى من انكشافات لاحقة، كتب عنها كثيرون، لكن الآلة الجبارة لتلك الصناعة ظل هديرها قادراً على حجب أصوات التساؤلات، فصلب أهمية الأسئلة حينئذ كان يتعلق بتفكيك شقى المصطلح، فهل ما يدور أمامنا هو «جهاد» وحقيقة ربطه ومرجعيته الزاعقة بـ«الإسلامى». فى الوقت الذى كان فيه المشهد مزدحماً بضباط الاستخبارات والعملاء وجهات وكيانات التمويل التى بدت معلومة بالاسم والجنسية، كل تلك العناصر فضلاً عن قدرات وشحنات الأسلحة والذخائر، التى ظلت تتدفق لـ«أيادى» المقاتلين سنوات. فوفق ما ذكره المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، «روبرت جيتس» فى مذكراته «من الظلال»، كان هذا يدور داخل نشاط استخباراتى معتمد أطلق عليه «عملية الإعصار Operation Cyclon». فى الوقت الذى كان يمارس على تناول هذا الشأن ما يشبه الحديث عن «الهولوكست» ومعاداة السامية. حتى ينحصر تناول تلك الظاهرة فى الحديث عن استبداد الأنظمة والدكتاتوريات الحاكمة، والفساد والفقر والجهل فى مقابل مصطلح أكثر زيفاً هو «الصحوة الإسلامية»، حتى يرتد التنظير والاتهام إلى الإسلام مرة أخرى ونظل داخل تلك الدائرة اللاهوتية المفرغة، فى الوقت الذى كنا فيه إزاء مجموعات محترفة من «المرتزقة» وفق جميع المكونات المادية للمصطلح.
فى بعض من المواجهات الصحفية بعد انقشاع القليل من غبار التعتيم والحصار الخانق، سُئل برجينسكى، مهندس تلك «الصناعة الجهادية» التى أنتجت الأفغان العرب وأسامة بن لادن و«القاعدة» وفروعها ومشتقاتها، ومعها أيضاً بتكليف للاستخبارات الباكستانية وللرئيس «برويز مشرف» بصناعة «حركة طالبان» وتمكينها وتسليمها سدة الحكم الكامل فى «دولة الجهاد» أفغانستان، فى أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور» الفرنسية 1998م، وبحوار أجراه معه الصحافى الفرنسى فانسان جوفير، «ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية، وتدريب وتسليح إرهابيى المستقبل؟»، أجاب حينها برجينسكى بوضوح: «ما هو الأكثر أهمية من وجهة نظر تاريخ العالم: الطالبان، أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الغلاة الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة؟».
وداخل طيات ذات المهمة الاستخباراتية الممتدة «عملية الإعصار Operation Cyclon» التى بمجرد إنهاء مهمتها الأولية فى أفغانستان، رتب مباشرة لانتقال «أسامه بن لادن، والقاعدة» إلى السودان فى العام 1992م، بدعوة من القيادى الإخوانى «حسن الترابى»، الذى كان صاحب الأمر بدولة السودان فيما بعد انقلاب عمر البشير 1989م، والذى تعهد فيه الأخير بإعادة ترتيب القيم السياسية «الإسلامية». خلال ذلك الانتقال الذى استمر حتى العام 1996م، ساعد بن لادن الحكومة الإسلامية السودانية فى إقامة مشاريع متنوعة من أجل إنجاح النموذج الإسلامى فى الحكم، فى مقابل أيضاً السماح بإنشاء معسكرات لتدريب وتأهيل المقاتلين الذين يتجهزون لنقلهم إلى جبهات قتال أخرى بعد أفغانستان. فى تلك الأعوام من وجود «القاعدة» وتنظيم «الجهاد» المصرى فى السودان، كان يجرى العمل على قطع صلات هؤلاء «المقاتلين الإسلاميين» بأوطانهم لتحويلهم إلى «كيانات عالمية» هائمة، لا تملك مستقراً لها. فبعد هجوم إعلامى قاسٍ ومستمر من «بن لادن» على «الملك فهد» والعائلة الحاكمة بالسعودية، أرسل فهد فى مارس 1994م مبعوثاً إلى السودان طالباً جواز سفر بن لادن، وسحبت جنسية بن لادن وجُمدت أصوله بالسعودية وتبرأت منه أسرته علنياً. بعدها مباشرة فى يونيو 1995م أدت المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصرى «حسنى مبارك» التى نفذها «الجهاد» انطلاقاً من السودان، إلى استحالة عودتهم إلى مصر مرة أخرى، ومن ثم إلى طلب مغادرة جماعة الجهاد وبن لادن من السودان مايو 1996م، لتصير أفغانستان هى «الملاذ الوحيد» القابل لاستضافة تلك الكيانات الهائمة.
فى ذات السياق ذكر رجل أعمال أمريكى من أصل باكستانى يدعى «منصور إعجاز» مفارقة لم تكن مفهومة لديه حينها، عندما كلف من قبل الاستخبارات الأمريكية بعمل مفاوضات غير رسمية بين الولايات المتحدة والسودان، عامى 1996 و1997م من أجل الحصول على بعض ملفات الاستخبارات السودانية. فقد حمل «إعجاز» عرضاً سودانياً بتسليم «بن لادن» ومعلومات تفصيلية حول القدرات القتالية لحزب الله بلبنان، وحماس والإخوان المسلمين فى مصر والحرس الثورى الإيرانى من بين مجموعات أخرى عاملة فى الإقليم. الذى شكل عامل دهشة بالغة وموقفاً غير مبرر أو مفهوم بالمطلق بالنسبة لـ«إعجاز» أن الاستخبارات الأمريكية رفضت هذا العرض رغم اشتماله على معلومات تتضمن تورط بن لادن فى تدريب المقاتلين فى الصومال، الذين كانوا أعضاء فى الميليشيات التى أسقطت مروحيات «البلاك هوك» فى مقديشيو 1993م، وقتلت الطيارين وقوات النخب الأمريكية مما تسبب فى هروبها المذل الصامت من هناك حينئذ. لكن سنوات قليلة مضت بعد هذه الوساطة الاستخبارية كانت كفيلة بإيضاح الصورة للوسيط ذى الأصول الباكستانية ولنا أيضاً، حول الأدوار التى كان يتم تنفيذها بالسودان عبر نظام البشير الممتد حتى اليوم، وما أريد للصومال أن تصير كطبعة أفريقية للنموذج الفوضوى الأفغانى، استثماراً لموقعها الفريد الذى يمكنها لسنوات «ممتدة حتى الآن أيضاً»، أن تمثل منصة لصناعة وإطلاق الأخطار فى جميع الاتجاهات المحيطة بها.