مر أكثر من 16 شهراً على قرار رئيس الجمهورية رقم 75 لسنة 2016، بتشكيل لجنة استرداد أراضى الدولة برئاسة المهندس إبراهيم محلب، ولم يدلها أحد حتى تاريخه، على أكثر من مليون فدان سائبة بين أيدى موظفى مناطق هيئة الأوقاف المصرية على مستوى الجمهورية، كغنيمة أفرزتها وجنبتها لجنة القسمة، التى يشكلها وزير الأوقاف، برئاسة قاضيين بالمعاش.
ولمن يعنيه الأمر، كان القانون 50 لسنة 1961، قد أعاد تقسيم الأوقاف الأهلية على مستوى الجمهورية، على المستحقين، وكلمة «المستحقين» يُقصد بها «الفراشون، والخدم، وأهل الحظوة» المقربون من أصحاب هذه الأوقاف الأهلية، وجاءت المادة 5 من القانون 50، لتحدد الملكية بـ50 فداناً فقط للمستحق، فيما تؤول باقى أراضى الوقف إلى الإصلاح الزراعى، كما جاء حكم المحكمة الدستورية العليا عام 2008، بوقف قانون «حق الاستحقاق»، وذلك بإلغاء الوقف على الخيرات، وإحلال الوريث مكان المستحق.
ووفقاً للقانون، فإن عقد القسمة ليس سنداً للملكية، إلا بعد تسجيله فى الشهر العقارى، مع تحديده بـ50 فداناً فقط للوريث، لتظل باقى الأراضى تحت سيطرة موظفى مناطق الأوقاف، وهى التى يتوارثها الموظفون حتى الآن، ولم يحصل عليها «الإصلاح الزراعى»، ولم تنتفع بها الدولة، لا بإيجار، ولا بأرياع، وتقدر بنحو مليون فدان على مستوى الجمهورية.
هذه اللجنة «القسمة» كانت ولا تزال سبباً مباشراً ومستمراً، فى عذاب الفلاحين المنتفعين بأراضى الأوقاف فى مصر، حيث تركت أبواباً عديدة مشرعة للفساد والسرقة والنهب المنظم، عبر أجيال طويلة، تناقلت الدفاتر والحجج والأوراق القديمة، حيث يتم تدريب الجيل الجديد على حفظ الفتاوى التى تضمن لأسلافهم المرور الآمن إلى القبور، ليظل المنتفع الفلاح، والوريث الفقير، فى ساقية دوارة من العذاب لا تتوقف، وتظل إيجارات هذه الأراضى تصب فى صالح كتائب الموظفين العتاة، وأرباب العائلات المتنفذة.
لجنة استرداد أراضى الدولة وفقاً لقرار إنشائها، معنية بتحقيق الأهداف التى تم تشكيلها من أجلها، حيث يعنى الاسترداد لغوياً، إعادة حق مفقود عينى أو مالى، يتم استثماره لصالح صاحب الحق، ولم يأت فى قرار إنشائها حصر أعمالها على الأراضى الصحراوية، أو الضائعة على الدولة حديثاً، بل يجب النبش فى الدفاتر القديمة عن حقوق ضائعة، تحولت إلى مليارات بأيدى فاسدين عتاة.
الغريب أن كل القرارات التى تدعم عمل هذه اللجنة حالياً، عطلت القوانين المعمول بها فى هيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعية، المنشأة بقرار جمهورى أيضاً، والتى أريد لها أن تُدمَغ بالفساد، نتيجة أخطاء فردية لبعض موظفيها، حتى أصبح من يعمل فى هذه الهيئة فى «حيص بيص» بين القرارات التى تعارض القوانين، وبين الإجراءات التى تُفرض عليهم بمجرد تعليمات شفهية، ستقود منفذيها فى أيام لاحقة إلى السجن، لتجاوزها القوانين المعطلة حالياً، وإن كان الآمرون بها يلوحون خطأ، بأنها تأتى وفقاً لتعليمات رئيس الجمهورية.
تعليمات رئيس الجمهورية الأخيرة بإعادة حقوق الدولة من الأراضى المنهوبة، لم يتم تفسيرها وفقاً لمفهومها الأصلى الذى يعنيه المسئول الأول فى البلاد، وهو رئيس الجمهورية، حيث تمت إزالات كيدية على أيدى موظفى المحليات، على الرغم من توزيع منشورات من المحافظين فى جميع محافظات مصر، تؤكد على عدم إزالة شجرة مثمرة، أو زراعات جادة منتجة، مع فتح باب التقنين الفورى لواضعى اليد عليها، وذلك لاستيفاء حقوق الدولة.
المنشورات التى تفسر تعليمات رئيس الجمهورية، تم توزيعها تحت عنوان «سرى وشخصى، تعرض فور الوصول»، وفيها:
- ألا يتم التعرض لأراض عليها زراعات جادة ومنتجة، على أن تبدأ على الفور إجراءات تقنين أوضاعها واستيفاء حق الدولة.
- إزالة التعديات على كل الأراضى التى صدرت لها قرارات إزالة، ولا توجد عليها زراعة جادة ومنتجة أو نشاط اقتصادى منتج.
- فى حالة وجود زراعة منتجة وجادة يتم التقدم لطلب تقنين الأراضى على الفور ودراسته فى إطار النظام المتبع من لجنة استرداد أراضى الدولة والقوانين واللوائح المنظمة.
- فى حالة وجود نشاط اقتصادى منتج فى 15/5/2017، يتم العرض على معالى الوزير المحافظ، ليتأكد من جديته حتى يتم التقدم لتقنين النشاط وفقاً للقانون واللوائح المنظمة.
وعلى الرغم من الرحمة التى تستبطن النقاط المدونة فى منشورات المحافظين إلى كل رؤساء الوحدات المحلية لمراكز ومدن المحافظات، على مستوى الجمهورية، لم يتم العمل بها نهائياً، حيث تمت إزالات على أراض مثمرة، وأنشطة اقتصادية منتجة، كما تمت تجاوزات على أراض مملوكة بعقود رسمية من هيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعية، لوح بها أصحابها فى وجوه القائمين على الإزالات، لكنهم نهروا أصحابها، ووصفوها بأنها مشكوك فى صحتها، كون «الهيئة فاسدة».
وخلال المؤتمر الأخير الذى نظمته الدولة لإعلان نتائج حملة إزالة التعديات، وفقاً لتعليمات رئيس الجمهورية، حيث استعرض المحافظون نتائج أعمالهم أمام الرئيس، لم يعلن أحدهم عن القيمة المضافة التى ستجنيها المحافظة، أو الدولة عامة، من كشف أعمال الإزالات التخريبية، ولم تتم مقارنة الدمار الحادث للتكاليف الرأسمالية التى دهستها الجرافات، بالمستهدف من هذه الإزالات، كما لم يتقدم أحد السادة المحافظين بخطة لاستثمار ما أسموه «الأراضى العائدة» أو «المستردة».
حتى الآن، لم نر نتيجة لهذه الحملة، سوى ارتفاع مؤشر الغضب والسخط من الضعاف الذين تعرضت أراضيهم للدهس تحت الجرافات، فى الوقت الذى تركت فيه آلاف الأفدنة محاطة بأسوار منيعة لم يمسسها قرار، وتنظر إليها عيون المظاليم شزراً، كونهم يعرفون أنها حصون محصنة بأسماء لا تزال تنعم بحياة كريمة، على الرغم من تسببها فى عذاب مقيم لأجيال سبقت، وأجيال لا تزال فى رحم الغيب.
نهاية: إلى المهندس إبراهيم محلب: مجلس الدولة كفيل بفك ألغاز لجنة القسمة التابعة لهيئة الأوقاف المصرية، وشهر واحد من العمل الدؤوب بين هيئة الأوقاف وهيئة الإصلاح الزراعى، كفيل باستعادة مليون فدان من الأوقاف الأهلية مطمورة فى ملفات قديمة، تدر دخلاً متجدداً منذ عام 1961 على موظفين أحياء وأموات بالوراثة، ومنها ما دخل فى زمام كردونات المدن، ويقدر المتر فيها بعشرات الآلاف، وقد تركت مطمعاً لنواب برلمانات سابقة وحالية.