كنت منذ أيام فى الجزائر، حيث الملتقى الثانى عشر للدروس المحمدية بالزاوية البلقائدية بمدينة وهران، وكان عنوان الملتقى هذا العام (الشعور بنعم الله)، وهو معنى من المعانى المهمة، إذ النعم موجودة، والشعور بها هو طريق استغلالها الصحيح، وشكر المنعم سبحانه وتعالى عليها، ومن ضمن المحاضرات التى ألقيت هناك محاضرة عالم الرياضيات الدكتور بشير يعلاوى، وعنوانها: (دور الاكتشافات العلمية فى إبراز بعض نعم الله الخفية)، ومن نعم الله العظيمة الوقت، وقيمة الزمن، تلك القيمة التى أخصص لها مقال اليوم، فالوقت له أهميته القصوى، وقد تناوله القرآن الكريم عدة مرات، منها: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)، فهنا إشارة إلى التغيرات التى تحدث عبر مراحل العمر، وتنبيهٌ إلى قيمة «إدراك الواقع»، حتى نستطيع أن نفهم ما حولنا، ونجدد خطابنا بطريقة تتسق مع الواقع الجديد، ليس فى مراحل نمو الإنسان فقط، بل فيما يخص أسباب تقدم وانهيار الحضارات، وفى سورة الرحمن: (يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ)، فالآية تنطوى على إشارة صريحة لمفردة «اليوم» وإلى أن «التغير» بمشيئة الله يكون عبر الزمن، وقد جاء فى الحديث النبوى: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، ووقتَك قبل انشغالك، وحياتَك قبل مماتك) فاستخدم مفردة «قبل» و«بعد» اللتين تنطويان على زمنين أحدهما يسبق الحدث، والثانى يأتى بعده، كما أن الحديث يشير لحالات متقابلة: «الشباب» مقابل «الهِرم»، و«الصحة» مقابل «السقم»، و«الغنى» مقابل «الفقر»، و«الوقت» مقابل «الانشغال»، و«الحياة» مقابل «الممات»، وكل حالة تقابل نقيضها عبر (الزمن).
وقوله: (ووقتك قبل انشغالك)، ففيه إشارة إلى التفرغ الذى ينبغى أن يُستغل بإنجاز نافع، لأن من قيمة الوقت تأتى قيمة الوعى، فالوعى فى العقول وليس فى الأعمار، لأن العقول هى حصاد الفهم والقناعات.
ومن المهم هنا فهم منطق الأولويات وفقاً لقاعدة: المهم العاجل، والمهم غير العاجل، والعاجل غير المهم، فالمذاكرة لطالب الجامعة مهم عاجل، والتفكير فى الزواج بالنسبة له مهم، لكنه غير عاجل، وحين يقدِّم مرحلة زمنية على مرحلة يحدث الارتباك، ويضيع الوقت.
وجاء فى الحديث النبوى أن من علامة المنافق عدم الاهتمام بوقت الآخرين، فهو إذا وعد يخلف وعده، والغريب أن هذا معروف فى العالم العربى، فنلاحظ من يعطيك موعداً ثم يخلفه مع أن العرب أكثر الناس ارتداء لساعات اليد، ومع أن الله عظَّم الوقت فأقسم به فى سورة العصر.
وللتحذير من ضياع الوقت جاء الحديث المشهور: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»، وقال الإمام الشافعى: صحبت الصوفية، فلم أستفد منهم سوى كلمتين، قولهم: الوقت إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: نفسك إن شغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، ولأن الزمن معيار أساسى يقاس بموجبه مدى تقدم الأمم وتطورها، فإنه يُعد عنصراً أساسياً ضمن عناصر أى عملية إنتاجية أو صناعية: (جهد + زمن = نتيجة)، وكل دقيقة فى التخطيط توفر لك 10 دقائق فى التنفيذ، وهذا المعيار شديد الوضوح نراه فى الإنجازات التى قدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى المدينة المنورة، لذلك ينبغى ألا يضيع عمر الإنسان فيما لا يفيد، بل يجب استغلال الوقت فيما ينفع من العلم والتعلم، والحض على فعل الخير، وإدخال السعادة على الناس، وتعمير الأرض، وتزكية النفس، وختاماً يمكن مراجعة كتاب: قيمة الزمن عند العلماء، للعلامة الأستاذ عبدالفتاح أبوغدة، وبحث: «الزمن ومفاهيمه اقتصادياً وحضارياً وفلسفياً واجتماعياً»، للكاتب والمفكر الدكتور عبدالجليل التميمى.