شر البلية ما يضحك.. وشر البلية هنا مفارقة.. والمفارقة تتصل بـ«سيد قطب» إمام التكفيريين.. ورائد الظلاميين.. ورئيس كتائب الكراهية والازدراء والعنف والإرهاب.. وعميد أكاديمية الكآبة والتجهم والفظاظة والشذر.. فهو يدعونا إلى الضحك والبشاشة والمرح والبهجة ويقول لنا وملامحه السمحة وابتسامته الساحرة تشع تفاؤلاً وحبوراً: «تذكر دائماً أن كل ابتسامة ترف على الشفاه.. وكل ضحكة ترن بها الحناجر إنما هى قطرات من الدم النقى فى عروق الأمة وصيحات إلى العمل المنتج ودعوات إلى السمو والطموح».
لقد كتب هذه الكلمات فى مقال قديم عنوانه «مباهج الحياة.. عنصر أصيل فى الإصلاح الاجتماعى» عثرت عليه وأنا أقلب فى صفحات الماضى أبحث عن مؤلفات «القطب» فى مراحله الفكرية المختلفة وأتابع شخصيته الدرامية.. كما جسدها المبدع «وحيد حامد» فى حلقات مسلسله «الجماعة 2».. بأبعادها المختلفة.. النفسية.. والاجتماعية.. والفكرية..
المقال نشر فى مجلة الشئون الاجتماعية عام (1940) وقدم له المحرر بأنه بحث طريف فى مباهج الحياة التى تنقص المجتمع المصرى، وقد استطاع الكاتب الفاضل أن يحدد مكان الداء كما استطاع أن يصف الدواء فى رشاقة وفطنة وذكاء.
ونحن نتحف قراءنا بهذا البحث الطلى الممتع الذى تغلب عليه روح الحظ والطيرة.. رجاء أن يجدوا فيه علاجاً لحالة الكآبة العامة التى تغشى مجتمعنا المصرى.
ويعزى «تاجر السعادة» وعاشق البهجة، أسباب الكآبة إلى كثير من الأمور، منها أنه ليس لدينا قطعة موسيقية واحدة ولا أغنية مصرية واحدة حتى اليوم تحمل طابع الصحة وترتفع عن نداء الجنس المريض.. وأكثر من ذلك أنه ليس لدينا حنجرة واحدة مستعدة لإخراج نبرة الفرح أو نبرة النشاط والصحة إذا عزت علينا بنبرة السمو والتحليق ولم يتبق عندنا من المغنين من يصلح لترديد نغمة واحدة من نغمات الإحساس السليم.. وطالما شكونا التأليف والتلحين ولكننا لم نلتفت إلى ظاهرة عجيبة فى أصوات مطربينا ومطرباتنا وهى أن حناجرهم وحناجرهن لم تعد صالحة إلا لإخراج النبرة الكئيبة والصوت الحزين.. ويلاحظ «المجاهد الكبير» ذلك فى الأغانى الوطنية الرائجة فى تلك الأيام وفى أناشيد أفراح الزفاف الملكية وأناشيد الأعياد.. فالألفاظ والمعانى فى الأولى قوية صاخبة.. وفى الثانية ضاحكة باسمة.. ولكنها خرجت من حناجر المطربين والمطربات ميتة هامدة حزينة.. تقطر منها الدموع وتشع فيها الأنات ويطل منها الوجع الدفين.. وهذا معناه المباشر والمؤكد نكبة على «روح الفرح» والبشر.. لأن الموسيقى والغناء يفعلان فى الكيان النفسى ما لا تفعله جميع التعاليم..
المدهش فى الأمر أن هذا الإمام المصلح البشوش الذى يحمل راية الدعوة إلى المرح والبهجة لا يكفر فقط غناء وموسيقى الأربعينات.. لكنه فى تناقض غريب، وذوق سقيم، ومزاج نفسى معتل، وتعصب مقيت، يفضح توجهاته ودخيلة نفسه الكئيبة ويفتى ويحرض ويشجب ويدعو باستياء وحدّة فى مقالاته بعد ثورة يوليو (1952) فى «الرسالة» إلى منع إذاعة أغنيات «محمد عبدالوهاب» و«فريد الأطرش» و«محمد فوزى» و«ليلى مراد» وآخرين وأخريات.. ينتبه إلى ذلك الأستاذ الناقد الكبير «حلمى النمنم» فى كتابه «سيد قطب وثورة يوليو» الذى يقول فى ذلك: كنت أتصور أن يكتب الكاتب مطالباً بالإفراج عن صوت كوكب الشرق «أم كلثوم» حيث منعت الإذاعة المصرية إذاعة أغانيها فى تلك الفترة بدعوى أنها كانت مطربة القصر والملك.. أما أن يتخذها نكتة ويريد أن يجعلها قاعدة تسرى على الجميع ويطالب بمنع الآخرين فهذا ما لم أتفهمه.. ووجدت أنها دعوة فى جوهرها وأساسها إلى تحريم الفن.. حتى لو لم تصدر تلك الدعوة مكشوفة وصريحة.. بل جاءت مبطنة بادعاءات الثورية والحفاظ على نجاح الثورة واستمرارها.. وتمتد الدعوة من الفن إلى الكتاب والشعراء.. وإذا بـ«سيد قطب» يطلب أيضاً من الثوار أعضاء مجلس قيادة الثورة منع عدد من الكتاب والشعراء من الإنشاد للعهد الجديد.. وهى دعوة لاضطهاد الكتاب والحجر عليهم والتفتيش فى ضمائرهم وكيانهم..
ثم يدعو «الفقيه البهيج» الذى كفّر الغرب وأمريكا ووصف مجتمعاتهم بالانحلال وتفشى الرذيلة، وصرح بأن عدونا الأول هو «الرجل الأبيض».. يدعو إلى الاقتداء بالأسرة الأجنبية فإن ساعة واحدة يقضيها المرء فى بيت إفرنجى يراقب فيها عواطف الحب والمودة الواضحة بين أفراد البيت الواحد ويلاحظ مظاهر المشاركة الوجدانية.. واجتهاد كل فرد أن يدخل السرور على نفوس الآخرين بحكاية أو لعبة أو حركة.. ساعة واحدة تكفيه لإدراك ما قد حرمنا منه فى بيوتنا.. هذه البيوت المتفرقة الأجزاء.. المفككة الأوصال التى يهرب الكثيرون منها إلى القهوة والنادى هروب البائسين.. فلنختلط بـ«الإفرنج» ما استطعنا.. ولنقرأ ما كتب فى لغاتهم من وصف للبيت «الإفرنجى» ومباهجه.. ثم لنحاول فى صبر طويل محاكاتهم فى إحياء بيوتنا وبث روح الفرح.. والنشاط بين جدرانها.. ولعلنا نوفق بعد عمر طويل.. ويشير الزعيم المفكر متهماً الحكومة ممثلة فى وزارة الشئون الاجتماعية بالتقصير فى الاحتفاء بالفرح وإشاعة روح المرح الجميل.. فيجب عليها أن تخلق وتنظم كثيراً من المواسم والمهرجانات الفرحة النشيطة ولتضف إلى الاحتفال بالمولد والمحمل ووفاء النيل الاحتفال بمواسم أخرى.. فلنحتفل بعيد الربيع (شم النسيم) وبموسم الحصاد (موسم جمع القطن) على مثال ما تصنع بعض الممالك الأوروبية، ولتقم مسابقات كثيرة للزوارق ومعارض الزهور.. ولتقم إلى جانب وزارة الشئون الاجتماعية هيئات أخرى ولجان تجعل من همها الإكثار من المباهج الاجتماعية.. والتجديد فيها والابتكار فى كل مناسبة من مناسبات العام حيث يتاح الاشتراك فيها لأكبر عدد ممكن من الشعب المحروم.
تتخذ المفارقة الكوميدية الضاحكة طابعها المأساوى البشع حينما يصبح هذا المتطلع إلى زرقة السماء الساجية ونور القمر البهيج وسكن الليل الشاعرى ونفحات النسيم العليل.. وهمهمة موج البحر المتناغمة وانسياب النهر الجميل وضحكات الربيع فى معارض الزهور البديع وشم النسيم الذى يدعونا للاحتفال به الشاعر الصوفى الرقيق ويأتى أتباعه ليكفروه فى فتاواهم الكريهة.. تتخذ المفارقة بعدها الكارثى حينما يكشف خفاش الكآبة وطائر الظلام عن وجهه الحقيقى وآثاره المدمرة من قتل واغتيالات وعنف وإرهاب وتفخيخ وعبوات ناسفة وتدمير وتحريض لقلب أنظمة حكم وبحور من الدم..
لقد قرأ «نجيب محفوظ» ملامحه مبكراً وقال عنه فى روايته «المرايا».. لم أرتح أبداً لسحنته.. ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين..