القيادة السعودية تعانى قصوراً واضحاً فى التمييز بين الجار والحليف، وخبراؤها مصابون بالعجز عن قراءة المتغيرات والتوازنات واتجاه الأحداث بالمنطقة، احتفظت بعضوية قطر فى مجلس التعاون الخليجى، وخاضت «عاصفة الحزم» بمشاركة قوات قطرية ضمن «التحالف العربى»، غير مدركة لما يجرى حولها من مؤامرات عبر سنوات طويلة.. منذ أن استقر حكم الشيخ حمد بن خليفة بدأت أمريكا وبريطانيا فى تأهيل الإمارة لقيادة التغيير السياسى بالمنطقة، وتحويلها لمركز لأنشطة المخابرات، تزامناً مع بدء تنفيذ سياسة الفوضى الخلاقة، الإعداد الهيكلى تضمن مجموعة إجراءات.. نقل «أكاديمية التغيير» من لندن إلى الدوحة، وهى التى دربت أعداداً كبيرة من الشباب المصرى الذى شارك فى 25 يناير 2011.. تأسيس «مؤسسة الكرامة» فى جنيف، التى نجحت من خلال التمويل فى التأثير على هيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، وآليات حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وهى الجهات التى مارست ضغوطاً شديدة على مصر ودول «الربيع العربى»، افتضاح أمر تمويلها لـ«القاعدة» أدى إلى وقف تسجيلها فى الأمم المتحدة 2011، ووزارة الخزانة الأمريكية أدرجت رئيسها عبدالرحمن بن عمير النعيمى على لائحة الإرهاب.. إنشاء «مركز بروكينجز الدوحة للأبحاث والدراسات» المعنية بالتأثير فى عملية صناعة القرار بدول العالم وذلك بتمويل 15 مليون دولار.. تأسيس «مركز الجزيرة للدراسات» لإصدار التقارير التى تشوه دول وأنظمة المنطقة.. تمويل منظمة «فرونت لاين ديفندر» للدفاع عن النشطاء بدول المنطقة.. إقامة علاقات قوية مع «مركز كارنيجى لأبحاث السياسات للشرق الأوسط» ببيروت.
أجهزة الأمن القطرية أيضاً تم إعدادها جيداً، أسندت مهمة تأسيس المخابرات لمصر، بحكم ريادتها، وتحمسها لدعم الأشقاء، باقى الأجهزة أسستها بريطانيا.. 2004 تم دمج أجهزة المخابرات والتحقيق والمباحث فى جهاز واحد «أمن الدولة»، استعداداً لأداء قطر لدورها فى تنفيذ «الفوضى الخلاقة».. «مركز بحوث الجريمة المنظمة ومكافحة الفساد» بصربيا، و«برنامج مكافحة الفساد» بالبوسنة، قدرا قيمة الأسلحة التى مولتها قطر لحساب داعش بسوريا والعراق خلال 2015 و2016 بنحو 1.5 مليار دولار.. شركة تويوتا أكدت أن وكلاء قطريين اشتروا 32000 سيارة دفع رباعى من بين الـ60000 التى تمتلكها داعش.. قطر لم تكتف بدعم الجماعات المتطرفة فى ليبيا، بل شاركت ميدانياً فى إسقاط القذافى، العقيد حمد عبدالله فطيس، قائد القوات الخاصة القطرية الحالى، ظهر على الفضائيات رافعاً علم بلاده أمام منزل القذافى ابتهاجاً بسقوط باب العزيزية 2011، واستمر دعمها لتسليح الميليشيات المتطرفة، بجسر جوى عبر السودان، وبحرى عبر تركيا، حتى تدخلت مصر أخيراً لوضع حد لذلك.. المخابرات الأمريكية رصدت أدلة تورط قطر فى دعم القاعدة باليمن، والمخابرات السعودية كشفت تورطها فى توزيع خرائط جديدة لليمن تشمل الطائف وتصل إلى عسير وعدة مدن سعودية، فضلاً عن رصد اتصالاتها بالإخوان.. فروع «منظمة قطر الخيرية» و«الجمعية القطرية لرعاية الأيتام» فى نيالا تدعم المتطرفين الإسلاميين بدارفور.. ولم يغب النفوذ القطرى عن جنوب السودان من خلال «الهلال الأحمر القطرى».. قطر الحبر السرى لصناع الفوضى.
التراجع عن سياسة الفوضى الخلاقة فرض تقليص دور التنظيمات الإرهابية المسلحة، وتقزيم الدور القطرى إلى حجمه الطبيعى، استعانة قطر بإيران لمواجهة الحصار أمر منطقى، فى ضوء ارتباطهما باتفاقيتى تعاون أمنى «ديسمبر 2010»، وعسكرى «أكتوبر 2015»، وحالة العداء التى تسود العلاقات السعودية الإيرانية، فضلاً عن حرص إيران على حماية النظام القطرى من السقوط، لمساعدته للحوثيين فى اليمن، ودعمه لحزب الله، لجوء قطر لتركيا رهان على فاعلية اتفاقهما العسكرى يونيو 2015، وسعى لتفعيل دور القاعدة العسكرية التى أنشئت بمقتضاه لتأمين النظام، الجميع كان على ثقة من عدم تجاوب تركيا، نظراً لعلاقاتها بالغة الخصوصية مع السعودية، لكنها تجاوبت بسرعة بإرسال قوات لحرصها على النظام القطرى شريكها فى تمويل وتسليح التنظيمات الإرهابية، ونقل عناصرها بين سوريا والعراق وليبيا، الأزمة الراهنة تفرض محاولة استشراف النتائج والتداعيات:
- قطر لن تحتمل الحصار أكثر من أسابيع قليلة، مهما كانت التسهيلات الإيرانية التركية لتخفيف آثاره.
- النظام القطرى انتهى أمريكياً وسعودياً، وفقد سمعته دولياً، اختيار أمير جديد أمر حتمى وعاجل.
- لا صحة لوجود عناصر حرس ثورى لحماية الأمير، أمريكا لا تسمح بذلك ما دامت قواعدها بقطر.
- لا صحة أيضاً لما تردده المعارضة الباكستانية عن دفع قوات لقطر.. باكستان تتعاطف مع الدوحة، وعلاقاتها تعانى الفتور مع السعودية وأمريكا، وحاجتها للغاز القطرى كبيرة، لكن مصالحها الاستراتيجية مع المملكة أكبر من التضحية بها من أجل إمارة صغيرة.
- إيران لن تُستدرج لأى تحرشات عسكرية ضد قطر، لأنها تدرك أنها قد تستهدف جرها لمعركة، من المؤكد أنها ليست جاهزة لها.
- تركيا لن تدفع بأكثر من 3000 جندى، لأن تلك الطاقة القصوى لقاعدتها بقطر، وهى قوة رمزية، لن تخوض بها مواجهات عسكرية.
- سقط الرهان السعودى على التحالف السنى مع تركيا، تركيا علمانية براجماتية، والإمبراطورية التى يحلم بها أردوغان «عثمانية» وليست «طائفية».. حقائق لم تتفهمها المملكة.
- الحذر مطلوب من جانب دول المنطقة بعد أن تبلورت الأطماع والضغوط بقوة من مثلث الأطراف «إيران تركيا إثيوبيا»، ذلك هو الخطر القائم، والمقبل.. فماذا أعددنا لمواجهته؟!
- التنسيق بين روسيا وإيران وتركيا تجاه أزمات المنطقة يتحول بسرعة لصيغة تحالف، مما يفرض على أمريكا التراجع عن خطط الانسحاب من المنطقة، وإعادة ترتيب الأوضاع اعتماداً على ثقل مصر.
- لم يعد أمام السعودية أى بدائل سوى التحالف مع مصر.. الدولة مهددة داخلياً وخارجياً، خسرت رهاناتها على باكستان وتركيا، بل وجدتهما فى حالة أقرب للتحالف مع عدوها اللدود إيران.. سياستنا ينبغى أن تنطلق من تلك الحقيقة، دون تخاذل أو انبطاح.
- سقوط النظام القطرى يعجل بانتهاء المد الإرهابى بالمنطقة، وسرعة تسوية المشكلتين السورية والليبية.
الموقف التركى من الحصار القطرى يفرض على السعودية ودول مجلس التعاون الخليجى إجراءات اقتصادية حفاظاً على مصالحها، الاستثمارات الخليجية تمثل 30% من الاستثمارات الأجنبية فى تركيا، حجم التبادل التجارى بين دول المجلس وتركيا يتجاوز 16 مليار دولار، والشركات التركية تنفذ مشاريع إنشائية قيمتها 40 ملياراً، الخليج يستحوذ على 5 -7% من سوق الأوراق المالية التركية، والسعودية تستحوذ وحدها على نصف المعدلات السابقة، أدوات ضغط بالغة القوة، تتحول إلى أسلحة فعالة حين استخدامها.. فهل آن الأوان لتدرك دول المجلس مصالحها، وتتحرك بإيجابية للدفاع عنها؟!