يقولون «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». والواقع أنه ما أكثر الأزمات والمشكلات التى نمر بها، وما أكثر «المعارك الكلامية» التى تنشب فى كل أزمة أو مشكلة أو قضية، بحيث ينخرط الجميع فى «حروب كلامية» بين المؤيدين والمعارضين. وما إن تنتهى مشكلة أو قضية، حتى تبدأ أزمة أو قضية أخرى، وهكذا حتى أصبحت حياتنا حروباً كلامية لا تنتهى ولا تنقطع. ولعل الجدل والتراشق الحاصل حالياً حول فتنة تيران وصنافير، وبصدد مقاطعة قطر، خير دليل على الأزمة التى نعيشها منذ فترة، سواء على الصعيد الوطنى المصرى أو على الصعيد العربى بوجه عام. وفى خضم هذه المعارك الكلامية، ضاعت قيمة العمل، وبحيث تُكرّس معظم الشعوب العربية جل وقتها للجدل والنقاش البيزنطى، سواء فى العالم الواقعى الذى نعيشه بأجسادنا أو فى العالم الافتراضى الذى سيطر على عقولنا وأفئدتنا.
ومن هنا، أرى أن شهر رمضان يُشكّل فرصة سانحة لتطبيق تمرين «الصوم عن الكلام»، وإعلاء قيمة العمل. فما أحوجنا إلى إعطاء عضلة اللسان راحة، وإلى تنشيط عضلات الجسم الأخرى من خلال بذل الجهد والنشاط فى ميادين الإنتاج. وكم نحن فى أمس الحاجة إلى تطبيق بعض المبادرات والأفكار التى تصب فى اتجاه «الصوم عن الكلام»، مثل مبادرة «يوم بلا محمول»، بحيث يمتنع الشخص عن استخدام التليفون المحمول خلال يوم كامل، حتى نتخلص من إدمان هذا الجهاز الذى أفسد علينا حياتنا، وقضى على التواصل الأسرى بين الأزواج والزوجات، وبين الآباء والأبناء. دعونا نطبق مبادرة «يوم بدون فيس بوك» أو «الصوم الإلكترونى»، بحيث نمتنع جميعاً خلال يوم كامل عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعى، وأن يعمل الآباء على مد جسور التفاهم والتواصل التى انقطعت بينهم وبين أبنائهم، وأن يُصغى الآباء إلى آراء الأبناء، الأمر الذى يُؤسّس لثقافة الحوار الهادف والشفافية القائمة على الثقة، فلا يُخفى الأبناء شيئاً عن والديهم، وتعود بالتالى الأسرة كما كانت خط الدفاع الأول ضد السلوكيات الشاذة والانحرافات الأخلاقية.
لقد ضاعت قيمة العمل والاهتمام بتطوير الذات وتنمية المهارات الشخصية فى مجتمعاتنا، الأمر الذى جعل بعض المستثمرين الأجانب يصرون على الاستعانة بالعمالة الأجنبية فى مشروعاتهم. ولعل ذلك يفسر لنا السبب وراء نص المادة الثامنة من قانون الاستثمار الصادر مؤخراً رقم 72 لسنة 2017م، التى تُخول «للمشروع الاستثمارى الحق فى استخدام عاملين أجانب فى حدود نسبة (10%) من إجمالى عدد العاملين بالمشروع، وتجوز زيادة هذه النسبة إلى ما لا يزيد على (20%) من إجمالى عدد العاملين بالمشروع، وذلك فى حالة عدم إمكانية استخدام عمالة وطنية تملك المؤهلات اللازمة، وذلك وفقاً للضوابط والقواعد التى تُبيّنها اللائحة التنفيذية لهذا القانون. ويجوز فى بعض المشروعات الاستراتيجية ذات الأهمية الخاصة التى يصدر بتحديدها قرار من المجلس الأعلى الاستثناء من النسب المشار إليها بشرط مراعاة تدريب العمالة الوطنية. وللعاملين الأجانب فى المشروع الاستثمارى الحق فى تحويل مستحقاتهم المالية كلها أو بعضها إلى الخارج».
لقد ضاعت قيمة العمل والاهتمام بتطوير الذات وتنمية المهارات المعرفية والشخصية فى مجتمعاتنا، بسبب انتشار الفساد والمحسوبية، وبحيث أصبح الشعار السائد هو «ليس مهماً ماذا تعرف، لكن المهم هو من تعرف!!!». ولا ننكر بالتالى المرارة التى يشعر بها الكثيرون من جراء الظلم الذى وقع عليهم بسبب تخطيهم فى التعيين بالوظائف الحكومية. ومع ذلك، يبقى أن ثمة بعض النماذج لشباب لم يستسلموا للظروف، وتسلّحوا بالعمل والاجتهاد والثقة بالله حتى تحقّق لهم ما أرادوا. كذلك، لا يمارى أحد فى أن عدداً كبيراً من الأشقاء السوريين، الضيوف فى مصر بسبب ظروف الحرب فى بلادهم، تمكنوا من الاستفادة من فرص العمل والاستثمار المتاحة فى بلادنا. وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن كثيراً من العمال المصريين فى القطاع غير الحكومى، إذا عمل أحدهم يوماً وتبقّى من إيراده جنيهات قليلة فى اليوم التالى، يُفضّل أن ينقطع عن العمل ويقضى يومه على المقهى، مع أن العمل متوافر!
وإزاء كل ما سبق، أجدنى مدفوعاً إلى التساؤل: متى نؤمن أن العمل شرف وفريضة واجبة، وأن الصوم عن الكلام فضيلة غائبة؟!!! وللحديث بقية.