تواجه مصر مخاطر كبيرة بسبب تزايد أعداد الإرهابيين الذين يمكن أن يجدوا فى استهدافها فرصة لتفعيل استراتيجيتهم الإجرامية، مستندين إلى دعم وتمويل أصبحنا نعرف أن دولاً فى المنطقة، وربما خارجها، توفره ببذخ، من أجل تقويض الأمن والاستقرار فى البلاد.
ورغم أن بعض أعضاء التنظيمات «الجهادية» المحلية يشنون الهجمات الإرهابية فى مناطق مختلفة من سيناء والوادى والصحراء الغربية، فإن مخاطر جديدة تنشأ بسبب توافر مخزن مستديم من الإرهابيين العائدين و«الجائلين» الذين نشطوا فى عمليات القتال بدول ومناطق مختلفة قبل أن يأتوا إلى بلادنا لشن هجماتهم الإرهابية فيها.
فى مطلع التسعينات من القرن الماضى ظهرت على السطح فجأة عبارة «جماعة الأفغان»؛ وهى عبارة استخدمتها وكالات الأنباء العالمية وبعض كبريات الصحف فى وصف مجموعة من الشباب الجزائرى الذى عاد من أفغانستان، بعدما انخرط فى معارك وتدريبات عسكرية، ليقاتل فى بلاده، ويشن مجموعة من الهجمات الإرهابية.
فقدت الجزائر نحو 200 ألف من أبنائها فى نزاع دامٍ عُرف لاحقاً باسم «العشرية السوداء»، إذ استمرت المذابح وعمليات القتال نحو عشر سنوات، رهنت مستقبل البلاد وقوّضت أمنها تحت إيقاع عنف مجنون.
كان الصراع قد اندلع فى ديسمبر من العام 1991، عندما استطاعت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» هزيمة «جبهة التحرير الوطنى» (الحزب الحاكم آنذاك) فى الانتخابات البرلمانية الوطنية.
لكن الانتخابات أُلغيت بعد الجولة الأولى، وتدخل الجيش للسيطرة على البلاد، وتم حظر «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» واعتقل الآلاف من أعضائها، وشنت الجماعات الإسلامية حملة ضد الحكومة ومؤيديها، وقامت بإنشاء جماعات مسلحة اتخذت من الجبال قاعدة لها، وبحلول العام 1994 كانت الحرب قد وصلت إلى أوج شدتها.
سعت أطراف عديدة إلى إيجاد حل سلمى عبر التفاوض، لكن المحادثات فشلت فى تطويق الأزمة وصُنع السلم، بعدما رفض الطرفان تقديم تنازلات جوهرية، وتم إجراء انتخابات رئاسية، فاز بها مرشح الجيش الجنرال اليمين زروال.
وردّت «الجماعة الإسلامية» المسلحة بسلسلة من مذابح استهدفت أحياء أو قرى بأكملها، وهى المذابح التى بلغت ذروتها فى العام 1997. وتسببت المجازر وارتفاع عدد الضحايا فى إجبار كلا الجانبين على وقف إطلاق النار، وفى هذه الأثناء فاز الطرف المؤيد للجيش بالانتخابات البرلمانية.
فى العام 1999، تم انتخاب رئيس جديد للبلاد، وبدأ عدد كبير من المقاتلين الانسحاب والاستفادة من قانون العفو الجديد، وبدأت الجماعات تنحل وتختفى جزئياً بحلول العام 2002 وتوقفت عمليات القتال، باستثناء مجموعة منشقة تسمى «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، والتى انضمت لاحقاً إلى تنظيم القاعدة فى أكتوبر 2003.
يدرك الباحثون المتخصصون فى شئون الإرهاب أن المأساة التى شهدتها الجزائر خلال فترة «العشرية السوداء» لم تكن لتحدث لولا طاقة العنف التى تفجّرت على أيدى الإرهابيين الجزائريين الذين عادوا من أفغانستان.
سافر الشبان الجزائريون المتأثرون بالمنهج السلفى إلى أفغانستان، ليقاتلوا «العدو السوفييتى الملحد» كما تم وصفه فى تلك الأثناء، بعدما أقنعتهم الدعاية الدينية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأنظمة العربية بذلك، آنذاك.
وعاد بعض هؤلاء الشبان، أو معظمهم، إلى بلادهم، بعدما تلقوا تدريبات عسكرية رفيعة، وانخرطوا فى معارك طاحنة، واحتل بعضهم مناصب قيادية، وزادت قدرات الحشد والتعبئة والتجنيد لديهم.
لم تكن معظم الدول العربية التى ذهب بعض مواطنيها إلى «الجهاد» فى أفغانستان تمتلك سياسات واضحة لاحتواء «العائدين»، ولذلك فقد كانت بعض الممارسات التى خضع لها هؤلاء العائدون سبباً فى اتجاههم إلى ممارسة العنف المسلح فى بلادهم.
عانت دول عربية عديدة من هجمات إرهابية شنها العائدون من أفغانستان، خصوصاً أنهم كانوا غير قادرين على الاندماج فى المجتمع، وراغبين فى استثمار معارفهم القتالية التى اكتسبوها خلال سنوات القتال ضد الجيش السوفييتى فى الجبال الوعرة.
كلما أحرز النظام السورى تقدماً فى الحرب ضد «داعش» وبعض الجماعات «الجهادية» الأخرى؛ مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«جيش الفتح»، فإن مقاتلين من تلك التنظيمات يفرون إلى مناطق أخرى بحثاً عن الأمن أو من أجل ممارسة أنشطتهم الإرهابية.
وبسبب نجاح الحكومة العراقية، والميليشيات الكردية، وبعض الميليشيات الشيعية، فى دحر مقاتلى «داعش» فى الأراضى التى كانوا يسيطرون عليها فى العراق، راح بعض هؤلاء المقاتلين يبحثون عن ملاذات آمنة أو مناطق جديدة يمكن أن يشنوا فيها هجماتهم.
فإذا كان بعض هؤلاء المقاتلين من المصريين، فإن وجود البؤرة الإرهابية السانحة لهم فى سيناء يمكن أن يشجعهم على العودة والانضمام إلى «داعش»، وممارسة إجرامهم تحت لوائه.
وإذا كان هؤلاء من المقاتلين الأجانب، فإن انضمامهم إلى الفصائل الإرهابية التى تستهدف مصر فى شبه الجزيرة أو فى ليبيا وفى الصحراء الغربية يظل خياراً مطروحاً.
لقد رصدت مراكز بحوث عالمية توجُّه مقاتلين عائدين من الأراضى التى يسيطر عليها «داعش» فى سوريا والعراق إلى مناطق جديدة فى أفريقيا، ليستهدفوا دولاً مثل ليبيا وتونس والجزائر ومصر.
وتقدر بعض تلك المراكز البحثية نسبة الإرهابيين الجائلين الذين خرجوا من مناطق سيطرة «داعش» إلى دول أخرى فى المنطقة بنحو 30%.
تقع مصر فى بؤرة المخاطر التى يمكن أن يسببها تفاقم ظاهرة «الإرهابيين الجائلين»، خصوصاً إذا تضافرت جهود هؤلاء مع زملائهم «العائدين» إلى مصر من المصريين محترفى القتال.
فى معظم العمليات الإرهابية التى تعرضت لها مصر فى السنوات الست الأخيرة كان من السهل جداً إيجاد مكون خارجى (سورى أو ليبى أو فلسطينى) فى مسار التحقيقات.
ينشط «داعش» فى سيناء اعتماداً على قدرات محلية وقدرات العائدين و«الجائلين» فى آن واحد؛ وهو أمر تشير إليه بوضوح التحقيقات والتقارير التى تُنشر بخصوص تطورات الأوضاع الأمنية فى شبه الجزيرة.
وعندما وقع حادث المنيا الإرهابى الأخير الذى استهدف إخوتنا المسيحيين، اضطرت القوات المسلحة المصرية إلى قصف مناطق فى ليبيا لمعاقبة من قالت إنهم «منظمو الهجوم وداعمو المهاجمين».
يجب أن ندرس تجربة الجزائر جيداً، كما يجب أيضاً أن نستخلص العبر من تجاربنا السابقة فى قضايا «العائدين من أفغانستان» و«العائدين من ألبانيا» وغيرها.
من الضرورى أيضاً أن نستفيد من بعض تجارب «الاستيعاب والدمج» التى قامت بها بعض الدول الأوروبية، والتجارب التى قامت بها بعض الدول العربية تحت أسماء مختلفة تبدأ من «المصالحة» وتنتهى بـ«الاستتابة»، فيما يخص المواطنين المصريين الذين سيعودون من القتال فى الأراضى السورية والعراقية والليبية.
لكن الأخطر من ذلك هو ما يتعلق بـ«الإرهابيين الجائلين»، والذين قد يجدون فى تزعزع الأمن فى منطقة سيناء أو صعوبة تأمين الصحراوات الشاسعة فى المنطقة الغربية، إغراء لتهديد الأمن وارتكاب عمليات إرهابية فى مصر.
بالنسبة إلى هؤلاء، يجب أن تطور أجهزة الأمن والاستخبارات المصرية برامج تعاون استراتيجية مع أجهزة صديقة وحليفة، وأن تنشئ قاعدة بيانات مستوفاة، يمكن من خلالها تقصّى أنشطة «الإرهابيين الجائلين» واحتواء خطورتهم.