وقفنا فى الحلقة السابقة عند محطة مفصلية فى صناعة ما سمى طوال ثلاثة عقود لاحقة بـ«الجهاد الإسلامى العالمى»، الرؤية الاستراتيجية لوكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تشتمل حينها على مهمة «صناعة النموذج»، ولم يكن هناك أكثر ملاءمة من أفغانستان لتصير قاطرة العمل لنموذج «الإرهاب العالمى»، كمرحلة حصاد على الأرض التى تم تمهيدها استخباراتياً طوال عقد «الجهاد الأفغانى»، وعلى تلك الأرض سيتم إعلان جبهة الجهاد العالمى وتنظيم القاعدة، وصولاً إلى إعلان «الملا عمر» خليفة للمسلمين تستوجب بيعته، لتنتقل المنظومة إلى مستوى متقدم تقف فيه على أرض أكثر صلابة وفى أحضان دولة ونظام حكم سخر لتلك المنظومة كافة إمكانياته، لكن مشهداً تحضيرياً مهماً جرى على الأراضى السودانية قبيل الخروج إلى أفغانستان، جديراً بالوقوف عنده قليلاً، خاصة أنه سيمتد للعمل لحساب المنظومة الجهادية العالمية فى مراحل تالية مليئة بالتفاصيل والدلالات.
فى منتصف العام 1991م، قبيل وصول بن لادن والمقاتلين إلى السودان بشهور، أسس رجل سودانى اسمه «الفاتح حسانين» ما سمى بـ(وكالة إغاثة العالم الثالث)، بترتيب ومشاركة من الرئيس البوسنى «عزت بيجوفيتش» الذى كانت تربطه علاقات بحسانين منذ سبعينات القرن الماضى، اتفق الرجلان على تحويل وكالة إغاثة العالم الثالث إلى مؤسسة خيرية وصفتها «الواشنطن بوست» فيما بعد بأنها: «الوسيط الرئيسى للسوق السوداء لصفقات السلاح، التى تقوم بها الحكومة التى يقودها المسلمون فى البوسنة، وأداة المال والنفوذ للحركات والحكومات الإسلامية حول العالم»، مقر الوكالة كان فى فيينا بالنمسا، والمدافع والصواريخ والأسلحة الأخرى كانت تشحن إلى البوسنة فى حاويات عليها علامة المساعدات الإنسانية، المثير أن الفاتح حسانين كان عضواً فى الحزب الحاكم السودانى ومن المقربين للزعيم السودانى الإخوانى «حسن الترابى»، وكلفه الترابى لاحقاً أن يعمل هو والوكالة مع «بن لادن، والشيخ عمر عبدالرحمن»، فى مارس 1992م، منح النظام السودانى «الإخوانى» لحسانين جواز سفر دبلوماسياً؛ لاستخدامه فى نقل مبالغ ضخمة من الأموال السائلة بطريقة غير شرعية من النمسا إلى البوسنة بدون تفتيش، (وكالة إغاثة العالم الثالث) كانت تعمل عن قرب أيضاً مع (منظمة الإغاثة الإسلامية الدولية) ومعظم الواجهات الخيرية الأخرى فى البوسنة، وشكل هذا الدور باكورة «توزيع المهام» ليتولى بمقتضاها «الإخوان المسلمون» النشاط المالى وحركة الأموال المتخفية تحت غطاء «العمل الإغاثى»، التى استطاعت بمقتضاه زرع فروع لها فى مختلف البلدان والعواصم العربية والإسلامية.
فى العام 2009م، صدرت دراسة بوسنية استندت إلى مجموعة من التقارير الأمنية المشتركة ما بين الحكومة البوسنية بمساعدة وكالات الاستخبارات الغربية، حددت أن على الأقل (2.5 مليار دولار) مرت عبر (وكالة إغاثة العالم الثالث) ما بين عامى 1993 إلى 1995م، الدراسة وصفت الوكالة بأنها تعاملت حصرياً مع مجموعة من الزعماء المسلمين البوسنيين فى زمن الحرب، الذين شكلوا أقلية حاكمة غير شرعية ومنعزلة؛ تتضمن ما بين 300 إلى 400 من أهل الثقة فى القيادات العسكرية، والجهاز الدبلوماسى، وعدد من وجهاء رجال الدين، وهذه المنظمة وليست الحكومة هى التى كانت تتحكم فى كل مساعدات الدول الإسلامية الممنوحة للمسلمين البوسنيين خلال الحرب.
بالعودة إلى عام 1991م الذى شهد إنشاء تلك الوكالة وتنامى النشاط «الإغاثى» على مستوى العالم، كان هناك على الجانب الآخر سقوط وانكشاف مدوٍ، سمى حينها بـ«فضيحة بنك الاعتماد والتجارة الدولى»، ففى ذات العام صدر قرار مفاجئ بتصفية وإغلاق إجبارى للبنك من السلطات المصرفية بمقره الرئيسى فى لندن، على خلفية اكتشاف جهات الرقابة فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن البنك متورط فى عمليات غسيل أموال، رشاوى، دعم الإرهاب، تجارة السلاح، بيع تكنولوجيا نووية، التهرب الضريبى، التهريب، الهجرة غير الشرعية، والشراء بطرق غير شرعية للبنوك والعقارات، بالإضافة إلى اختفاء مبلغ 13 مليار دولار أمريكى، فضائح كهذه جعلت البعض يطلق على البنك اسم «بنك المنحرفين والمجرمين الدولى»، لكن المثير ليس هو هذا الإغلاق ولا الانكشاف بأن البنك الدولى كان هو الستار المصرفى لما سبق ذكره من حركة إدارة وتداول للأموال، وهو الذى يملك (400 فرع) فى 78 بلداً حول العالم، وبإجمالى أصول تتجاوز 20 مليار دولار، مما جعله سابع أكبر بنك فى العالم من حيث قيمة الأصول، إنما جاء المستفيدون من هذا الإجراء الذى أحدث هزة مالية عالمية كبيرة ليشكلوا هم عامل الإثارة والانكشاف الأعمق تأثيراً، فبسبب انهيار البنك اضطر المجاهدون المسلمون إلى استخدام مصادر مصرفية أخرى، الكاتب الفرنسى الشهير «رولان جاكار» سيذكر لاحقاً أن بعد إغلاق «بنك الاعتماد والتجارة الدولى»، تم تحويل الأموال من البنك إلى بنوك فى دبى والأردن والسودان تحت سيطرة وتصرف الإخوان المسلمين، بعض الأموال سُلمت لمنظمات مثل جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، وجزء آخر تم تحويله من خلال أيمن الظواهرى إلى سويسرا وهولندا ولندن وأنتويرب وماليزيا، بعدها سيتوصل الكاتب الأمريكى «آدم روبنسون» لنتائج مماثلة وأكثر تفصيلاً، فيقول: إنه عندما انهار «بنك الاعتماد والتجارة الدولى»، كان بن لادن قد انتقل حديثاً إلى السودان التى كان يحكمها حسن الترابى، الذى كانت له أفكار إسلامية مماثلة لبن لادن، «بدون نظام يمكن من خلاله تحويل الأموال حول العالم بطريقة خفية، سيكون من السهل نسبياً اقتفاء أموال الإرهاب»، فى الشهور التالية، عمل بن لادن وفريق صغير من الخبراء على خطة لاستبدال وظائف بنك الاعتماد والتجارة الدولى، أزال أسامة الغطاء للترابى عما سماه «مجموعة الإخوان» بداخل القاعدة، وبدا أن ذلك إشارة إلى الإخوان المسلمين، يقول روبنسون: تتكون هذه المجموعة من (134 رجل أعمال عربياً) تبلغ ثرواتهم عدة مليارات من الدولارات، هذه الشبكة ستحل بفاعلية محل «بنك الاعتماد والتجارة الدولى» لـ«المجاهدين الإسلاميين»!!