مرّ بعض التابعين على الصحابى الجليل «أبوالدرداء» وهو يزرع شجر المانجو والجوز، فقال له: أنت رجل كبير السن، وهذا الشجر يخرج بعد سنوات طويلة، فقال لهم: زرعه مَن قبلنا فأكلنا منه، ونحن نزرعه ليأكله مَن بعدنا، وكانت سيدة أوروبية عجوز تركب القطار كل يوم من منزلها حتى يصل القطار إلى آخر محطاته، ثم تعود إلى بيتها، وكان معها كيس فيه بذور تلقيها على الطريق الذى يمر به القطار، كان المشهد يتكرر يومياً، فسألها أحد الركاب الذين يسافرون يومياً معها: ماذا تصنعين يا سيدتى؟ قالت: أنا أرمى بذور الزهور على طريق القطار، قال: ولماذا؟ قالت: لأننى أرى الطريق موحشة، وأتمنى أن أرى طريق القطار كله مملوءاً بألوان الزهور الجميلة.
قال لها: لكنها تحتاج للماء وسيضيع معظمها، قالت: أعلم أن بعضها لن ينبت وسيضيع، ولكنى أراهن على نزول المطر الذى سيحيى البذور وينبت الزهور، وأنا أعمل ما علىّ، تاركة الباقى على الله.
نزل الرجل من القطار وهو يقول لنفسه: هذه المرأة مجنونة فكيف ستنمو هذه البذور على حافتَى الطريق؟
مرت أيام طويلة فوجئ الرجل بعدها أن زهوراً كثيرة بدأت تظهر على جانبَى القطار، فتغير مظهر الطريق، وأصبح بديعاً رائعاً، بحث عن السيدة العجوز فى القطار كله عدة أيام فلم يجدها، سأل الكمسارى عنها فقال له: ماتت منذ فترة.
فى الوقت نفسه سمع فتاة صغيرة فى القطار تقول لأبيها: انظر إلى هذه الزهور الجميلة أتمنى لو أن السيدة العجوز كانت حية لتسعد بنتاج عملها، ولكنه عاد إلى نفسه قائلاً: يكفى أنها بذرت ليحصد الناس وبذرت ليسعد الناس. رحلة الحياة صعبة كرحلة القطار أو أكثر، وكلما ألقيت بذور الخير فى رحلة حياتك وحياة الآخرين، حصدت خيراً فى دنياك وأخراك.
رحلة الحياة لا تتحمل دماء الحروب، فاصنع السلام وألقِ بذوره فى الأرض، عسى الله أن يحقن بك الدماء، وأن يوقف ببذور سعيك نزيف الدماء، رحلة الحياة فيها من الأمراض والأوجاع ما فيها، فابذر فيها بذور الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصى، والصبر على الأمراض، رحلة الحياة فيها من صراعات السياسة وكراسى السلطة ما فيها، وآهٍ من صراعات السياسة، فكم بذرت من بذور الكراهية والأحقاد والثارات والدماء والسباب والتفحش، فحاول أن تبدل هذه الطينة العفنة بأخرى طيبة، وتبذر فيها مع ماء السماء الطاهر بذور الحب والألفة والمودة والزهد فى الدنيا وإيثار الآخرة، وتعلم الناس بفعلك قبل قولك أن كراسى السلطة زائلة وتافهة، وأن عملاً متقبلاً واحداً عند الله أسمى من كل كراسى السلطة، ابذر بذور الحب ليعمّ بين الجميع، كن أول مَن يتنازل عن جاهه للإصلاح بين الناس، ولوقف نزيف الحب والود، وأوقف عجلة الكراهية التى تسير بأقصى سرعة بين الناس.
رحلة الحياة طويلة ومليئة بالمرضى والمكروبين، فحاول أن تخفف عنهم ولو بكلمة أو زيارة أو اتصال تليفونى أو مساعدة لمريض لتعطيه دفعة أمل وعزيمة ليواجه مرضه أو محنته.
ابذروا بذور الخير حتى وإن لم تدركوا نفعه وثمره، ابذروا بذور السلام حتى وإن لم تظللكم شجرته، فيكفى أنها ستظلل أولادكم وأحفادكم.
إياك أن تستجيب لأولئك الذين سيحقرون بذرة خير أو معروف بذرتها، أو يقولون لك: ماذا ستغنى عنك وعنا هذه البذرة التافهة؟!
ذكرهم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، رغم أن القيامة ستجتاحها مع كل البذور، ورغم أنها لن تثمر، ورغم أن البشر سيهلكون ولن يتبقى منها ولا منهم شىء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم شجعنا على بذر الخير بغض النظر عن نتيجته.
ويقاس عليها أنه إذا قامت قيامة الناس حرباً وصراعاً وشتماً وسباً وكراهية، وأيقنت ألا فائدة من بذر أى خير للإصلاح بينهم فلا تيأس، وابذر بذور الحب والصلح والإصلاح والعفة والعفاف، فلا بد أن تثمر يوماً بينهم ولو بعد حين.