نريد أن نعتبر «مبارك» تاريخاً يحق لنا مناقشته ومراجعته دون التعرض لشخصه الذى بلغ من الكبر عتياً لكنه لا يريد.. نريد أن نترك «مبارك» الإنسان يعيش فى هدوء ما تبقى له من عمره دون الاشتباك مع شخصه بأى طريقة ممكنة مع حقنا فى استمرار مراجعة سياساته الكارثية، خصوصاً فى الخصخصة وبيع ممتلكات المصريين وإهمال سيناء وضياع أفريقيا من مصر لكنه لا يريد.. ويصر على إشغالنا كل يوم بموقف أو بتصريح جديد، حتى انتقلت التصريحات إلى ما سموه «تسريبات صوتية» ليبدو الأمر أن كلام الرجل يأتى فى سياق فضفضة خاصة لبعض المقربين منه وليست تصريحات سياسية موجهة أو متعمدة.. وآخرها كان التسجيل الصوتى الذى نشرته صفحته «آسفين يا ريس»، التى يديرها ابنه جمال مبارك، أكد فيها أن الإثيوبيين لم يجرؤوا على العمل فى سد النهضة وهو فى السلطة لأنهم يعرفون أنه كان سيدمره وبطائرة «توبوليف» واحدة!
ويبدو أن ذاكرة الرئيس الأسبق كطيار لم تنس «التوبوليف» الروسية كقاذفة جيدة حتى لو كان الزمن قد تجاوزها حتى فى روسيا نفسها بأنواع أحدث وأفضل، إلا أن ذاكرته خانته عن الفترة التى تسرب نفوذنا فى أفريقيا فى سنوات حكمه حتى صارت مرتعاً للعدو الإسرائيلى وجهاز مخابراته «الموساد» تحديداً، حتى إن مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية يصرح علناً عام 1990 وفى محاضرة بمركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب بأن «الدور الإسرائيلى تجاه حركة التمرد فى السودان كان حاسماً، وأن دوافعه الأخلاقية كانت بمثابة الجسد للاستراتيجية التى وضع أساسها القادة الإسرائيليون الأوائل منذ عهد ديفيد بن جوريون وجولدا مائير وحتى الوقت الراهن»!، بل وأكثر من ذلك، ففى حديث لوزير الأمن الداخلى الصهيونى، آفى ديختر، قال إن صانعى القرار فى إسرائيل كانوا قد وضعوا خطة للتدخل فى إقليم دارفور، وأضاف: كنا سنواجه مصاعب فى الوصول إلى دارفور لممارسة «أدوارنا المتعددة» بعيداً عن الدعم الأمريكى والأوروبى، وتدخلنا فى دارفور أمر حتمى حتى لا يجد السودان الوقت لتركيز جهوده باتجاه تعظيم قدراته لصالح القوة العربية، حيث إن السودان بموارده المتعددة كان بإمكانه أن يصبح دولة إقليمية قوية إلاّ أن الأزمات الداخلية التى يواجهها منعت ذلك، وطبعاً يتباهى بالدور الإسرائيلى، وهنا نتحدث عن الأذرع الصهيونية الأمنية التى وصلت إلى السودان! أى على حدود مصر مباشرة، وبغرض تقسيم وتفكيك بلد عربى أفريقى يعد أمنه مهماً جداً لمصر وأمنها، أما أن تحدثنا عن التدخل الإسرائيلى الأمنى فى باقى الدول الأفريقية فحدث ولا حرج، إلا أننا ولضيق المساحة قياساً على اتساع الاختراق الإسرائيلى لأفريقيا سنكتفى ببعض النماذج المتصلة مباشرة بأمن مصر وأمن مياه النيل تحديداً؛ فمثلاً.. فى يوم من أيام أوائل عام 1993 سقط الرئيس الإريترى، أساسى أفورقى، مغشياً عليه لأزمة صحية طارئة، تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية التى اقترحت نقل «أفورقى» إلى إسرائيل للعلاج وهو ما حدث فعلاً لتفتتح سفارة إسرائيلية فى أسمرة بعدها بأسابيع!
لم يتوقف الحال عند تبادل دبلوماسى وافتتاح سفارات، بل تحول الأمر إلى معاهدات عسكرية بين إسرائيل وإريتريا وتعاون أمنى وثيق، وهو ما يعنى ببساطة وجوداً إسرائيلياً مباشراً على مدخل البحر الأحمر والذى لم يعد بحيرة عربية كما كان!
إلا أن أى متخصص فى السياسة يدرك أن هذا التعاون الإريترى الإسرائيلى سيكون مبرراً لابتزاز إثيوبيا التى قبلت بالطبع التعاون مع إسرائيل، ومن هنا قفزت إسرائيل مباشرة إلى الداخل الإثيوبى ونشأ هذا التعاون الذى كان لا يخطر على بال أحد بعد أن كانت العلاقات المصرية الإثيوبية نموذجية، خصوصاً وقت حكم الزعيمين جمال عبدالناصر والإمبراطور هيلا سلاسى، والتى كانت أحد أسباب موافقة مصر على اختيار إثيوبيا مقراً للاتحاد الأفريقى، وهو ضمان تميز العلاقات المصرية الإثيوبية، وكان ذلك أهم تأمين للمياه وللأمن المائى لمصر وليس بالطائرة «التوبوليف»!
على كل حال المثال السابق فاضح جداً للفشل الذريع فى سياسات «مبارك»، فمصر التى كانت تعرف دبة النملة فى كل الدول الأفريقية حتى إنها استطاعت فى عملية مخابراتية يمكن وصفها بالأسطورية، تهريب أسرة الزعيم الأفريقى «لوميمبا» رغماً عن القوات البلجيكية والأمريكية، ومصر التى دمرت الحفار الإسرائيلى الشهير بعملية مخابراتية أسطورية أيضاً وتحت غطاء من إحدى شركات الإنتاج الفنى، فضلاً عن الوجود الاقتصادى والتنموى من خلال شركة النصر للاستيراد، وغيرها من مئات الأمثلة تسبب التراجع فى الدور وفى النفوذ إلى قفز العدو الرئيسى لمصر إلى منابع النيل وإلى مدخل البحر الأحمر وسط غفلة كاملة تستحق المحاكمة والعقاب، ولذلك كانت المطالب بالمحاكمات السياسية وليست الجنائية هى الأوقع، فمن تسبب فى أضرار للأمن القومى المصرى والمصالح الحيوية لشعب مصر ليس من العدل محاكمته على «شوية» هدايا من مؤسسة صحفية كبرى!
الحديث عن أفريقيا طويل.. ومؤلم.. حتى إنها سلمت إلى إسرائيل تسليماً فى كل المجالات، والأرقام والوقائع والأحداث والتفاصيل والإحصائيات كلها موجودة وكلها مخزية وقد نعاود نشرها فى مقال آخر إلا أن علينا أن نذكّر والذكرى تنفع المؤمنين بمفاجأة مهمة راحت من ذاكرة الرئيس الأسبق وهى أنه فى أكتوبر 2009 وأغسطس 2010 قامت الحكومة الإثيوبية بعملية مسح موقع سد النهضة وكان «مبارك» فى قمة سلطاته، وفى نوفمبر 2010 تم الانتهاء من تصميم السد وكان «مبارك» فى قمة السلطة، وفى 31 مارس 2011 تم منح عقد قيمته 4.8 مليار دولار لإحدى الشركات الإيطالية وكان ذلك بعد شهر من رحيل «مبارك» عن السلطة، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يتم الاتفاق على ذلك وإقراره خلال شهر واحد، بينما فى 2 أبريل 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق، ميليس زيناوى، حجر الأساس للسد، وقد تم إنشاء كسارة للصخور جنباً إلى جنب مع مهبط للطائرات الصغيرة للنقل السريع وكان مستحيلاً أن يتم ذلك بعد شهرين من رحيل «مبارك» عن السلطة ولا يمكن فهمه إلا أنه تم فى عهده! فلا خافت منه إثيوبيا كما قال فى تسريبه المسجل أو تسجيله المسرب ولا يحزنون!
كل معاناتنا اليوم نتيجة أخطاء «مبارك» وفشله فى أفريقيا، والصمت أشرف له وأرحم لنا!