بدلاً من أن يركبك الهم بسبب الارتفاع الجنونى للأسعار، وتحزن لمستوى التعليم المزرى، وتكتئب لحوادث الإرهاب، والاتجار بالدين وجرائم الظلاميين والردة الحضارية التى نعيش فى كنفها وسيطرة المناخ الرجعى والإيمان بالخزعبلات والدجل والشعوذة، وتتألم لخراب الذمم وانعدام الضمير لأصحاب الأبراج المائلة وسوء مستوى المسلسلات الرمضانية وتفشى البذاءة والإسفاف فى الأفلام السينمائية وتراكم القمامة فى الشوارع وبكاء وانتحاب مدرجات الكرة من جراء خلوها من المشجعين ما زالت، والأدوية المغشوشة وفتاوى السلفيين واحتضار الجمال وسيادة القبح والضحك الذى أصبح ضنيناً والنكتة التى تذوى والمزاج الذى اعتل.
بدلاً من الاستغراق فى النكد المقيم فأنا أدعوك أن تغسل روحك المجهدة والمثقلة بالهموم، أو كما يقول شباب هذه الأيام فى لغتهم الجديدة «اغسل القلقاسة»، ببعض ألوان البهجة وأشكال الفرحة بالعودة إلى عصر الجمال والروقان، الذهن الصافى، واللحن الرائق، واللون الباهر، والحلم الناعم.
إن الكاتب الصحفى «المحمدى» يسعى بقلمه الرشيق وعباراته الساخرة وروحه المرحة أن يحقق لك غسيل المخ هذا من خلال كتابه الأخير «طرائف ميت غنوة» الذى يبحث فى دفاتره القديمة عن تفاصيل حكايات طريفة حدثت فى الزمن الجميل، بها الكثير من المفارقات الضاحكة تصنعها شخصيات لها العجب، تعيش الحياة الفنية بكل تناقضاتها وغرائبها وتفاصيلها المدهشة، وتطرحها عليك بسلاسة وعفوية وبالعامية الراقية التى لا تتدنى إلى فجاجة أسلوبية، أو ركاكة تعبيرية، بل تحتفظ بخفة ظل مثقف أريب يعرف كيف يجرك إلى مساحات من مناطق مجهولة بالنسبة لك، لكنك تقع فى أسرها وتتابعها بشغف واستغراق.
فى قصة أغنية «ما تزوقينى يا ماما» التى غنتها «مها صبرى» وكتبها «عبدالرحمن الخميسى»، الكاتب والمؤلف الإذاعى والسياسى وكاتب سيناريو وحوار فيلم «حسن ونعيمة» ومكتشف «سعاد حسنى» وتلميذ «كامل الشناوى» فى الفن والحياة، وقد سماه الأصدقاء والندماء «القديس الصعلوك».
وللأغنية قصة طريفة يرويها «المحمدى»، وفحواها أن «بليغ حمدى»، الملحن الشاب فى ذلك الوقت، ذهب إلى «الخميسى» فى مكتبه، فسأله: معاك فلوس؟! قال له «بليغ»: لا.. كل اللى معايا ربع جنيه. ونفهم من الحوار الدائر بينهما أن «الخميسى» كان يريد أن يسهر ويتناول العشاء مع «بليغ». ما يلبث «الخميسى» أن يبادر «بليغ»: طيب تعالى معايا.. نزلوا.. ركبوا التاكسى.. بليغ دفع.. راحوا لمسئول فى الإذاعة والخميسى قال له إنه قرر يكتب أغانى.. وأخذ يشرح له أنه وبليغ عندهم مشروع غنائى وهيعملوا حاجات يكسروا بيها الدنيا، وخد عربون، المهم العربون.. سأله «بليغ»: مين اللى حيغنى الأغانى دى؟! طلعوا على «مها صبرى». الخميسى قال لها إنه جاى من الإذاعة حالاً.. وحيعمل لها هو و«بليغ» أغنية تكسر الدنيا بس تبرز العربون.
عربونين خدناهم لغاية دلوقتى.. بس نسينا تفصيلة صغيرة قوى.. فين الغنوة؟!
أصلاً «الخميسى» ماكتبش حاجة، وأكيد بليغ ما لحنش اللى ماكتبهوش الخميسى.
مها طلبت تسمع الغنوة، الخميسى قال لها: خلصى نمرتك وآدينا قاعدين.
راحت تغنى.. الخميسى قال له: لحّن يا بليغ:
ماتزوقينى يا ماما
قوام يا ماما
دا عريسى هياخدنى
بالسلامه يا ماما.
وتحس إن «قوام يا ماما» دى كانت حالة الخميسى وبليغ وهما بيعملوا الغنوة على أساس يخلصوها قبل «مها» ما تخلص نمرتها.
إنما يا أخى اللى تستغرب له إنها فعلاً خلدت «مها صبرى» وبقت أشهر أغنية غنتها.. سبحان الله.
حكاية أخرى يرويها «المحمدى» زمنها منتصف الخمسينات، بدأها بـ«محمد عبدالوهاب» الذى شده صوت جديد، فتاة تقرأ نشرة الأخبار، فى نحو الثلاثين من عمرها، هى «فضيلة توفيق» التى اشتهرت فيما بعد باسم «أبلة فضيلة» فى برامج الأطفال. المهم أن «عبدالوهاب» أحبها وطاردها، وعندما استعصت عليه طلبها للزواج فرفضت هى وأهلها باعتبار أنه متزوج ويعول.. (بس هو فضل فترة مش يائس لدرجة إنها سابت البلد فترة وراحت عاشت فى روما).
فى هذه الفترة كان «لعبدالوهاب» صديق هو «عبدالمنعم السباعى» كان بيحب مديحة يسرى لدرجة إنه سمى بنته مديحة، وكتب فيها أغانى كثيرة أشهرها «جميل واسمر» التى غناها محمد قنديل. «السباعى» كان ضابط من الضباط الأحرار يا على ومالوش علاقة بـ«يوسف السباعى» اللى كان برضه من الأحرار يا على.. وزى ما احنا عارفين إن الضباط الأحرار اتوزعوا على مؤسسات البلد بعد 1952.. وكتير منهم ساب الجيش واشتغل حاجات ثانية، ومؤسسات الثقافة والفن والإبداع اتملت ضباط أحرار، بعضهم أبدع، وبعضهم خدها بالدراع. السباعى كان نصيبه يشتغل فى الجمهورية وكتب له ييجى (150) أغنية.. أهمها «أروح لمين» لأم كلثوم. إتلم «عبدالوهاب» على «السباعى» وبدأوا يشكوا همهم لبعض.. وكلمة من هنا كلمة من هناك، كانت النتيجة أغنية «أنا والعذاب وهواك عايشين لبعضينا».
و«المحمدى» يهدف من سرد هذه الحكاية إلى أن يكشف عن مساحة «الروقان» التى كان يعيشها الوسط الفنى فى هذا الزمن الجميل (حالة الروقان اللى تخلى الناس تحب وتنحب وتتعذب وتعمل فن وهى سايبة إيديها.. دى حاجة ما بقتش متوفرة ولا حتى لنجم النجوم).
والأمثلة كثيرة، فعباس العقاد أحب «أليس داغر» سنوات طويلة وراقبها مستخدماً شاعراً شاباً صديقاً.. وفى النهاية كتب رواية «سارة».. والشاعر إبراهيم ناجى» أحب «زوزو حمدى الحكيم» وكتب لها «الأطلال».
يقول «المحمدى»: «السبب فى ده كله إن المجتمع لحد الستينات كان مقسوم لنخبة عايشة حياة زى ما حضرتك شايف وجماهير عريضة تسأل الله حق النشوق. تخيل إن أول فلوس قبضها أنيس منصور من الصحافة اشترى بيها شقة فى الزمالك.. وإنهم وفروا له إنه يلف حوالين العالم ويرجع يكتب اللى شافه وأحياناً اللى ما شافوش».