كنت أتعجب وأنا شاب: كيف جرؤت هذه الأمة أو قسم منها فى حقبة تاريخية أن تسمح لنفسها أن تسب أو تلعن على المنابر أعظم الصحابة قرباً من النبى وزوج الزهراء العظيمة فاطمة؟ كيف استساغ هؤلاء أن يفعلوا ذلك مع الإمام علىّ رضوان الله عليه؟ وأى سِنة من العقل أو غفلة من الزمن سمحت لهم بذلك؟
لم أفهم السر فى هذا الجنون الذى أصاب هؤلاء حتى أطلقوا ألسنتهم فى أعظم حواريى النبى على منبر النبى (صلى الله عليه وسلم)؟.
لم أفهم ذلك إلا حينما عاصرت حالات الصراع السياسى المقيتة والحادة والتى تطلق الألسنة من عقالها وتخدر العقول، فتخرج البذاءات وينطلق الفحش ويعم السب والشتم واللعن وتستطيب العقول والألسنة كلمات الطعن واللعن والتكفير والاغتيال المعنوى، ويتحول التقى إلى فاسق، والعفيف الشريف إلى زنديق، ويلعن الناس بغير حق، وتضيع العقول ويتقاتل الناس دون هدف أو غاية حميدة، بل يثأر كل واحد لنفسه وينتقم لحزبه أو طائفته ويدور حولها فيهزم الحق وينتصر الباطل.
كنت أعجب وأنا شاب كيف يُهزَم الفارس الصنديد علىّ بن أبى طالب الذى صارع وهزم أعظم الفرسان مثل عمرو بن عبدود الذى كانت العرب تهابه كلها؟!.
كيف يُهزَم الذى أعطاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) رايته فى خيبر دون أبى بكر وعمر قائلاً له «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك»، وفتح الله عليه حصون خيبر؟!
ولكنى أدركت السبب بعد أن رأيت السياسة وألاعيبها القذرة، ورأيت أصحاب المبادئ والأخلاق والقيم لا ينتصرون عادة فى ميادين السياسة، لأنهم لا يعرفون الغدر والخيانة والتآمر والكذب.
هكذا كان علىّ مع الذين يحاربونه، فقد منع جيش معاوية الماء عن جيش علىّ حتى يظمأوا ويستسلموا، فلما هجم رجال «الإمام علىّ» عليهم وأجلوهم عن الماء قالوا: لا ندعهم يشربون كما فعلوا معنا، فأبى الإمام الذى يراقب ربه ويقدمه على ما سواه ولا يهمه أن يغلب خصمه بقدر أن يدور مع الشريعة حيث دارت، وأبت نفسه أن يحرم الماء ممن حرموه منه، فقال لأصحابه: اشربوا ودعوهم يشربون، وكأنه كان يدور مع الحكمة العظيمة «أفضل ما تصنعه مع الذى عصى الله فيك أن تطيع الله فيه».
وأشار عليه بعض أصحابه أن الخوارج يخرجون من عسكره وسوف يحاربونه بعد ذلك فبادرهم قبل أن يبادروك، فرفض أن يبدأهم بالحرب أو أن يستأصلهم قبل ذلك، وقال «لا أقاتلهم حتى يقاتلونى وسيفعلون»، فرفض أن يغدر بهم ولكنهم غدروا به وقتلوه وهو فى أقدس وضع ووقت وهو يصلى بالناس، ولو كانوا فى مواجهته بالسيف والحرب ما استطاعوا ذلك.
لقد هزمته مروءته وشهامته فها هو يأبى على جنوده الناقمين على الخوارج وغدرهم «أن يقتلوا مدبراً أو يتبعوا فاراً أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً»، وصلى فى موقعة الجمل على القتلى من أصحابه وأعدائه على السواء ودعا لهم جميعاً.
وظفر بعبدالله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهم ألد أعدائه المؤلِّبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر من جيش ذى عدة فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاء ضربته.
وأكرم وفادة السيدة عائشة ورفض أن ينالها أحد بسوء وعاملها أرق معاملة تليق بأم المؤمنين زوجة النبى، وذهب إليها بعد موقعة الجمل يزورها ويطمئن عليها فصاحت فيه صفية أم طلحة وسبته وشتمته فقال له أصحابه: أتسكت عن هذه المرأة وهى تسبك وتشتمك؟ فقال: ويحكم إنا أُمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات، وعاقب من سب السيدة عائشة وأقام عليهم الحد تعظيماً لمكانتها، وسار فى ركابها أميالاً يودعها، وأرسل معها عشرين امرأة تخدمها وتحميها وقلدهن السيوف حتى تصل معززة مكرمة إلى بيتها.
وحينما جرحه التكفيرى «من الخوارج» نهى قبل موته أهله وأصحابه أن يمثلوا بقاتله أو أن يقتلوا أحداً غيره، ورثى طلحة الذى خلع بيعته وجمع الناس لحربه رثاءً كله الألم والحب والمودة.
لقد كان مثالاً للفارس النبيل فى معاركه السياسية أو الحربية، وكان غاية فى الذكاء والدهاء ولكن تقواه ومراقبته لربه كانت تمنعه من أن يتبع أساليب الغدر التى اتبعها خصومه معه وقد صرح بذلك قائلاً: «والله ما معاوية بأدهى منى، ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس».
لقد كان حظ الإمام علىّ عاثراً حينما تابعه ووالاه أهل العراق أو الكوفة فهم ليسوا أهل طاعة مثل أهل الشام، كما أن علىّ بن أبى طالب كان يرفض أسلوب رشوة الأتباع من مال الدولة فخسر بذلك الكثيرين، ومنهم شقيقه عقيل بن أبى طالب الذى رفض الإمام أن يعطيه ما لا يستحقه من مال ومنصب، فانحاز إلى معاوية الذى أغدق عليه بالعطاء.
ورفض الإمام أن يسب معاوية أو أصحابه رداً على سب أهل الشام له ومنع أصحابه من ذلك قائلاً: «إنى أكره أن تكونوا سبابين» وأمرهم فقط أن يذكروا أعمالهم وكان يدعو للجميع «اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوى عن الغىّ والعدوان من لهج به».
وكان جنود خصومه يحاربونه بالنهار ويأتون للصلاة خلفه بالليل وهو لا يمنعهم ولا يغدر بهم، وكان عقيل شقيقه يقول: «إن أخى خير لى فى دينى ومعاوية خير لى فى دنياى»، وهكذا كان رأى الجميع فى علىّ ومعاوية، ويعرفون أهل الدين الذين لن يعطوهم الدنيا، ويعرفون معاوية الذى سيمنحهم إياها.
سلام عليك يا إمام، يامن أرسيت قواعد النبل والفروسية والعدل فى الغضب قبل الرضا، والإنصاف حتى فى أحلك لحظات الصراع السياسى، والرحمة حتى فى أظلم لحظات الحروب، سلام عليك يا من شرفتنى بالكتابة عنك.