«حارة اليهود»: واحة التعايش السلمى فى الزمن الجميل
ملامح الحياة منذ عشرات السنين مازالت موجودة بالحارة
«واحة التعايش السلمى فى الزمن الجميل»، رغم أنها جملة ذات طابع أدبى ثقافى يقتصر ترديدها على ألسنة المفكرين والمثقفين فقط، إلا أنها الأكثر شيوعاً بين أهالى «حارة اليهود» بمدينة الإسكندرية، الذين يحرصون على تداولها باستمرار، للتعبير عن القيمة التاريخية لحارتهم القديمة، التى يتفاخرون بالانتماء إليها، رغم ما يعانونه من ظروف معيشية بالغة الصعوبة، يخيم عليهم كابوس الفقر والأمية.
وتقع «حارة اليهود» فى حى الجمرك، بالمنطقة الواقعة بين المنشية وبحرى، بمحازاة محطة الركاب البحرية رقم 10 بميناء الإسكندرية، والتى جمعت بين شوارعها عدداً كبيراً من اليهود المصريين والمهاجرين إلى مصر، قبل بداية هجرتهم فى خمسينات القرن الماضى، أثناء فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
المغاربة والفرنسيون والإسبان والطليان والأتراك أبرز الجنسيات التى عاشت فيها.. والأهالى أجهضوا مخططاً سلفياً لتغيير اسمها بعد ثورة 25 يناير
بدأت «الوطن» جولتها بين شوارع المنطقة، التى ألهمت الكثيرين من الأدباء والفنانين، وسطرت صفحة مهمة من تاريخ المصريين، فى وقت لم تكن فيه العقيدة الدينية سبباً لإثارة النزاعات الطائفية، من أمام سبيل للمياه أنشئ على الطريقة الإسلامية فى عام 1292، بتبرعات من أهل الحارة، والمفارقة أن من قام ببناء السبيل عامل يهودى يدعى «حامين»، طبقاً لروايات الأهالى.
وبين علامات الشيب التى تغطى وجه «محمد عمران»، البالغ من العمر 82 سنة، موظف سابق بمصلحة السجون على المعاش، ارتسمت بسمة خفيفة، عندما مر شريط ذكريات طفولته، التى شاركه فيها أصدقاؤه من اليهود، أمام عينيه، وقال: «أنا مواليد عام 1935، وقضيت زهرة طفولتى وشبابى مع أصدقاء لم أعرف معنى لكونهم يهوداً إلا فى منتصف الخمسينات، عندما بدأت عمليات هجرتهم الجماعية من مصر»، وأضاف بقوله: «توفى قبل ولادتى، وكان جارنا اليهودى، ديفيد شاؤول، هو من يعتنى بأسرتنا وكأنه عائل لنا، كبرت وإخوتى فى كنف ذلك الرجل وزوجته، لدرجة أننى لم أستوعب فكرة أنهم ليسوا أقاربنا»، وتابع قائلاً: «لقد كبرنا ولعبنا وعملنا مع أصدقائنا اليهود، وتداخلت أحلامنا وطموحاتنا، ولم تكن السياسة ضمن اهتماماتنا أو مشاغلنا، وظننا أننا لن نفترق، ودخلت فى حالة اكتئاب استمرت عدة شهور، عندما فارقونا بسبب الظروف السياسية فى ذلك الوقت».
ذكريات الخمسينات: زيارة «النبى دانيال» طقس أسبوعى و«السبت» إجازة حتى الثمانينات
أما «محمد نافع»، 66 سنة، فقال: «تربيت فى حارة اليهود منذ مولدى، ولكننى لم أعايشهم، إلا أننى سمعت من أبى وأعمامى وأخوالى ذكرياتهم مع أصدقائهم اليهود، على مدى عقود طويلة»، وأضاف: «اليهود كانوا يمثلون أغلبية سكان الحارة، وعملوا جميعاً فى التجارة، وكانت محلاتهم قبلة للزبائن من مختلف مناطق الإسكندرية، بسبب شطارتهم فى تقديم أفضل البضائع بأرخص الأسعار»، مشيراً إلى أنه نشأ بجوار مصبغة ملابس يملكها حاخام يهودى يُدعى «سعد زلبون»، وظلت المصبغة محتفظة بشهرتها فى الإسكندرية لعدة عقود، بعد هجرة صاحبها.
أما «فتحية إبراهيم»، 78 سنة، فقالت إنها عاصرت اليهود فى سنواتها الأولى، وأضافت: «أتذكر جيداً احتفالاتهم يوم السبت، كنت أدخل بيوت صديقاتى الأطفال، ولم ألحظ أى اختلافات بين بيتى وبيوتهم، التى كانت جدرانها مليئة بكتابات دينية تخصهم»، وتابعت بقولها: «اليهود كانوا مثل أى مجموعة من البشر، لهم عاداتهم وتقاليدهم وإيجابياتهم وسلبياتهم، وما كنت ألاحظه على جيراننا من اليهوديات، أثناء ذهابنا إلى بيوتهن أو مجيئهن إلى بيتنا، حرصهن على الاحتفاظ بأسرارهن لأنفسهن»، لافتةً إلى أنه «لم تحدث أى مشكلات بين المسلمين واليهود فى الحارة طوال فترة حياتهم فيها، مثل التى تحدث الآن بين المسلمين والمسيحيين، إذ كانت العقول أرقى والمشاعر أعمق»، على حد وصفها، وأضافت أن والدها وأعمامها اشتروا عدداً من المحلات التجارية الخاصة باليهود، عند هجرتهم من مصر.
وقال «عباس جابر السحت»، 68 سنة، صاحب محل أسماك بحارة اليهود: «أنا اتولدت هنا، وسمعت روايات كتير من أبويا، لأنه عاصر وقت عيشة اليهود فى الحارة، ومنها أنها سميت حارة اليهود لأن أغلب سكانها كانوا يهوداً مصريين، وكانوا دائماً يشاركون فى جميع مناسباتنا»، مشيراً إلى أن أبرز سكان الحارة كان الدكتور «حارة»، وزوجته دكتورة «سرينا»، اللذين قاما بإنشاء «مستوصف حارة الطبى»، فى العقار رقم 30 بحارة اليهود، لعلاج الفقراء من أبناء المنطقة مجاناً، بصرف النظر عن ديانتهم، وأضاف أن عدداً من أطباء اليهود فى الحارة اشتهروا بوقوفهم الدائم مع الفقراء غير القادرين على دفع تكاليف العلاج، حيث كانوا يوقعون الكشف الطبى عليهم ويصرفون لهم العلاج مجاناً، ولفت «السحت» إلى أن أشهر أطباء حارة اليهود لم يكن طبيباً بشرياً، وإنما «حاخام» كان يقوم بالكشف على الدجاج قبل ذبحه، فإذا كانت الدجاجة سليمة يصرح بذبحها، أما إذا كانت مريضة فيطبع ختماً عليها حتى لا يقدم أحد على ذبحها.
الشاب «حسن فرماوى»، 39 سنة، أحد سكان حارة اليهود، قال: «لا أعى على فترة حياة اليهود فى الحارة، ولكننى أعرف جيداً محالهم التجارية، التى رغم تغير اللافتات على أبوابها، إلا أنها ما زالت تحتفظ بأسمائها اليهودية الأصلية»، مشيراً إلى أن أهم تلك المحلات صالون «معتوق الحلاق»، و«سعد زلبون»، ومحل «الحاخام» لذبح الطيور وفقاً للشريعة اليهودية، و«الترزى شيمون»، ومحلات بيع لوازم الخياطة، وأضاف أنه «عقب ثورة 25 يناير 2011، قامت قيادات سلفية بزيارة الحارة، لعقد لقاءات انتخابية، وأعلنوا عن نيتهم تغيير اسمها إلى حارة المؤمنين، الأمر الذى قوبل بغضب ورفض شديد من سكان الحارة، الذين يعتبرونها جزءاً من هويتهم وتراثهم».
وقال «أحمد سعد»، 77 سنة، إن أغلب سكان الحارة من اليهود، خلال تلك الفترة، كانوا يعملون جزارين فى مجزر «المكس»، واعتاد جميع أهل الحارة على الحصول على إجازتهم الأسبوعية يوم السبت، وظل هذا التقليد متبعاً فى معظم المحال التجارية بالحارة حتى الثمانينات، قبل أن تتغير الإجازة إلى يوم الأحد، مشيراً إلى أن اليهود كانوا يراعون مشاعر المسلمين فى شهر رمضان، بعدم الأكل أو الشرب أمامهم، لدرجة أن الشهر الكريم أصبح بمثابة «حفل سنوى فى حب الآخر»، بحسب وصفه. ومن جانبه، قال الدكتور أحمد غانم، أستاذ التاريخ بكلية الآداب فى جامعة الإسكندرية لـ«الوطن»، إن أغلب اليهود الذين عاشوا بالإسكندرية وتركزوا فى حارة اليهود، كانت أصولهم إما مغاربة أو فرنسيين أو إيطاليين أو إسبانيين أو أتراكاً، وأضاف أن اليهود تشاركوا فى الحياة المصرية مع المُسلمين والمسيحيين بمختلف المناطق، إلا أن «حارة اليهود» كانت لها سماتها المميزة، إذ احتفظوا بطقوسهم الدينية كما هى، وكانت الحارة تتزين بـ«نجمة داوود»، وانتظموا فى أعمالهم التى تُناسب الطبقة المتواضعة التى كانت تسكُن الحارة، فعُرف الصُناع والتجار اليهود بصناعات وحرف تنوعت ما بين المصوغات الذهب والألومنيوم والأقمشة، أما النساء اليهوديات فكان معظمهن يعملن فى صُنع الحلويات، بالإضافة إلى حرفة «الحياكة».