فى خزانة ذكريات كل منا عدة ورود جافة يحافظ عليها ويرعاها بين أوراق كتاب أو يضعها داخل إطار زجاجى أمام عينيه فلكل منها قصة ما زالت تعيش داخل قلبه مهما مرت السنون وتقدم به العمر. والغريب أن ورود الذكريات برغم جفافها لا تفقد رائحتها ولعل ذلك الأمر وراء المثل الشعبى المصرى الذى يقول «إن دبلت الوردة رائحتها فيها»، والذى يرمز به المصريون لجمال الأنثى الذى يظل ملازماً لها مهما تقدمت فى العمر.
وللورد مئات القصص والأغانى والأمثال الشعبية فهو أيقونة الحب فى كل مراحله، فى توهجه وذبوله وضياعه وهو أيضاً أيقونة الحياة، ففى الميلاد له مكان وفى الأفراح والنجاح والموت والوداع أيضاً. وحكايات الورد كانت وما زالت وحى وإلهام الشعراء والملحنين والرسامين وهناك لوحات عالمية خالدة له تباع بملايين الدولارات وتزين قصور الملوك والأغنياء. وقد غنى للورد عمالقة الطرب المصرى منذ أربعينات القرن الماضى وحتى الآن.
ففى عام ١٩٤٤ شدَت أسمهان بكلمات الشاعر حلمى الحكيم وألحان فريد الأطرش «يا بِدع الورد يا جمال الورد» وقد صنفت هذه الأغنية الورد بألوانه ومعانيها ووصفته بأنه «رسول العشاق». وفى عام ١٩٤٦ كتب المبدع بيرم التونسى لأم كلثوم «الورد جميل» وعلى ألحان زكريا أحمد تحدثت عن نفس المعانى الرومانسية الحالمة وطلبت من الناس أن تتعلم لغة الزهور وتهديها للأحبة. وقد غنى محمد عبدالمطلب الأغنية نفسها وإن اختلف الأداء إلا أن المصريين احتفظوا بإعجابهم للاثنين. وتتوالى الأجيال ويظل الورد متربعاً على عرش الوحى للشعراء والمطربين فيغنى عبدالوهاب «يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك؟» من تأليف الشاعر اللبنانى الأخطل الصغير. وبعدها يكتب له حسين السيد «علشان الشوك اللى فى الورد أحب الورد» وجاءت لتحكى كنموذج مثالى للقصة القصيرة كيف يدمى الشوك أصابع العاشقين عندما يقتربون من المحبوب وكيف يشفى الجرح بمواساة الحبيب. ولأن الفن الراقى لا يموت أبداً ظلت هذه الأغنية الرائعة حلماً لكل مطربى العصر فغنتها نجاة الصغيرة وبعدها سمية القيصر وما زلنا نسمعها حتى الآن بنفس الإعجاب والانبهار والحب. وتأتى وردة الجزائرية عام ١٩٧٩ لتقوم ببطولة المسلسل الشهير «أوراق الورد» وتغنى فيه أجمل أغانيها التى تحمل الاسم نفسه وفيها تقول «أوراق الورد بتتكلم أوراق الورد بتتألم» لتؤكد ما يقوله علماء الطبيعة عن النباتات والورود بأنها كالإنسان تشعر وتفرح وتحزن وتبكى بطريقتها الخاصة. ولأن الورد -كما قلت- أيقونة الحياة على مر العصور فقد كتب عنه أيضاً الفلاسفة والحكماء فقال عنه سقراط «بالفكر يستطيع الإنسان أن يجعل عالمه من الورد أو من الشوك» وقال فيكتور هوجو «فى قلبى زهرة لا يمكن لأحد أن يقطفها».. وفى الصين هناك مثل شعبى يقول «يلتصق أريج الزهرة باليد التى تقدمها»، أما الفرنسيون فيقولون «الطريق المفروشة بالورد لا تقود للمجد».
أما ابن تيمية شيخ الإسلام فقد سُئل أيهما أنفع للعبد التسبيح أم الاستغفار؟ فأجاب «إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له. فالتسبيح بخور الأصفياء والاستغفار صابون العصاة».
ومن بين الكلمات المأثورة عن الورود: «عندما يهمل الإنسان الورد يذبل ويموت وكذلك بعض البشر عندما تهملهم يموتون»، و«لا حاجة للورود أن تتزين فهى زينة طبيعية.. إنها الجمال الطبيعى»، و«الورود مخلوق استعراضى»، و«عطر الورود أنفاس الجنان»، و«الورود رسول من القلب للقلب».
وإذا تحدثنا عن جمال الورد فلا بد أن نتحدث عن أن عشق المصريين القدامى له أدخله حياتهم فى أدق تفاصيلها فبعيداً عن رسائل الغرام وعشق جماله فقد وصل للطعام وأدوات التجميل والعطور بل إن الأساطير القديمة تؤكد أن ظهور ماء الورد للتجميل عرفته بلاد فارس فى البداية فكانت النساء تستخدمه فى الأفراح والاحتفالات. وفى مصر عرفت احتفالات المصريين شربات الورد فلم يخلُ أى بيت منه فى جميع أفراحه ومناسباته السعيدة بل ظهرت بعض الأغانى الفلكلورية من أجله عندما دعت إلى بِلّ الشربات إيذاناً ببدء الاحتفالات والفرح. وكان شربات الورد يُصنع فى البداية من الورد الجورى -أى البلدى الأحمر- بسبب لونه ومذاقه غير العادى. ولكن بعد اختفاء الورد الجورى وقلته لجأ المصريون إلى الألوان الصناعية فى شربات الورد ليعطوه اللون نفسه. كما ظهر أيضاً فى مصر صناعة تقطير الورد ومنها عرفت مصر ماء الورد وماء الزهر الذى كان يضاف لمياه «القلل» ليعطيها نكهة لذيذة ولبعض أنواع الحلوى وقد جاءت من تلك العادة «موردة الماء» حيث اعتاد المصريون تقديم الماء المثلج بعد إضافة ماء الورد له للضيوف وما زال حتى الآن فى رحاب أضرحة آل البيت يقف أحد الرجال بالموردة يقدم ماءها للمترددين على المكان تبركاً بها وبالمكان.
ولأن الورد هو الجمال والحب والحنان فقد أخذت النساء منه الأسماء فقديماً انتشر اسم زهرة ووردة وفلة وياسمين وداليا ونرجس ورندا وكاميليا وسوسن.. ومع السنوات ظهرت أسماء الزهور الأجنبية وأصبحت فتياتنا تسمى بها فالآن هناك سيسل وفريهان ومعناها ملكة الزهور، وبسنت ولانا وفيول ولوريت وهدهينام وهى زهرة تركية، وإليسا وليماس وهى زهرة البحر.
ومن أجمل ما كُتب عن الورد ويردده العشاق أن ما تقدمه للمحبوب له معنى فى اختيارك للونه ومعنى أيضاً لعدد الوردات فى الباقة. فالوردة الواحدة تقول لمحبوبك «أنت كل شىء فى حياتى»، والاثنتان: «أتمنى أن أسافر معك وحدك»، والثلاث: «أريد رؤيتك مرة أخرى»، أما الست وردات: «أشك فى حبك لى»، والسبع: «أحبك»، أما العشر فهى «دعوة للزواج»؛ فقبل أن تشكر من أرسل لك باقة الورد اقرأ المقالة من جديد لتعرف ماذا يريد أن يقول لك.