ألم يكن هناك مُخرِج أكثر حنكة أو منتج أعتى خبرة أو حتى «ريجيسير» قادر على إحضار الوجوه المناسبة فى الوقت المناسب؟! وألم يطرق باب دماغ أحدهم من يخبره أن الأمر لم يعد مجرد دبدبة على الأرض وصخب ناجم عن توجع وتأوه، بل بات الجرح غائراً والألم بائناً؟!
طيب فى حال لم يوجد هؤلاء أو يتوافر أولئك، ألم يتكبد المساعدون والمستشارون والناصحون عناء النظر فى النتيجة ومطابقة التاريخ مع المناسبة؟ وإن فعلوا هل لاحظوا أن المصريين - أو فلنقل قطاعاً عريضاً من المصريين كان يستعد للاحتفاء (ولا أقول للاحتفال) بالذكرى الرابعة لتخليص مصر من عصابة الإخوان؟! وإن لاحظوا، هل طرأت على بالهم أو وصلت إلى مكاتبهم تقارير أو مسوحات أو استطلاعات أو استقراءات تفيد بأن كثيرين -لولا الروح المصرية المتمسكة بتلابيب الحياة- أوشكوا على الانفجار الذاتى؟! طب بلاش استطلاعات واستقراءات، ألم تنمِ إلى مسامعهم كلمة هنا أو عبرة هناك تفيد بأن كثيرين أوشكوا على بلوغ مرحلة «الطرشقة» التى ينجم عنها طرطشة نحن فى غنى عنها؟
وعن الناس غير المسيسين أتحدث.. وعن الجموع التى لم تنتفض غضباً أو كمداً للإخراج بالغ السوء لمسألة تيران وصنافير أشير.. وعمن يسمون بأعضاء حزب الكنبة الأشاوس أتكلم.. أليس أولئك هم القاعدة الشعبية العريضة التى هجرت كنباتها وانزلقت فى بحور السياسة الهائجة وهتفت بشعور فطرى مصرى أصيل مدافعة عما تبقى من مصر «يسقط يسقط حكم المرشد» قبل أربعة أعوام؟! أليس أولئك من اتهمهم ضحايا غسيل المخ الذى دارت رحاه فى مصر المحروسة على مدار ما يزيد على 40 عاماً بأنهم أعداء الدين وهادمو الإسلام ومحاربو من جاءوا لتطبيق شرع الله؟ أليس أولئك هم المصريون من مسلمين ومسيحيين ممن ضربوا عرض الحائط بتهديدات جماعة إرهابية مارقة أطبقت على أنفاس المصريين على مدار عقود باسم الدين والأعمال الخيرية وقت انسحبت الدولة طواعية من أداء مهامها على مدى عقود؟ أليس أولئك من بلع الزلط، وأعلن استعداده لبلع المزيد حتى تمر البلاد من أزمة الإرهاب وتربص الجيران وتآمر دول هنا وهناك من أجل إيمان عميق بأنهم وجدوا أخيراً «من يحنو عليهم حقاً»؟
ألم يدرس علماء الاجتماع وأطباء النفس تأثير عبارة «هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه» على الملايين؟ ألم تصل الرسالة؟ ألم يخبرهم أحدهم أن المغامرات غير المحسوبة وبال، والمقامرات غير المدروسة خراب، والتوقيتات غير المخطط لها يمكنها أن تأتى على أخضر الحكومة ويابس الشعب؟
أعلم تماماً أن زيادات الوقود كانت مقررة.. لكن كونها مقررة لا يعنى أن يتم تطبيقها بطريقة «مقلب حرامية» أو «بص العصفورة». سويعات قليلة فصلت بين تأكيدات الحكومة أن الزيادة لم تتقرر بعد وتأكيداتها أن الزيادة تقررت. وبعيداً عن شروط الصندوق وقيود القروض وظروف مصر والمنطقة إلى آخر الواقع المعروف، فإن الشعب مهما بلغت نسبة الأمية فيه، أو ضربت العشوائية والهرجلة قطاعات عريضة منه، فإنه لا يحب أن يستغفله أو يستهين بذكائه أو يعامله معاملة الطفل أحد. قد يتفهم الصعاب، وقد يهضم بمزاجه الزلط، وقد يمد فى حبال الصبر لكن دون أن يتعرض للاستغفال.
غفلة أخرى كبيرة غرق فيها المصريون؛ فإجراءات حماية الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل ومعدومته مشكورة ومحمودة، لكن ماذا عن إجراءات قطع رقاب الطبقات الجشعة محدودة الضمير ومعدومته من التجار وغيرهم من المتحكمين فى الأسعار؟ وماذا عن إجراءات انتشال أشلاء الطبقة المتوسطة؟ هذه الطبقة التى لم تجد من يحنو عليها فقط، بل فوجئت بمن دونها يمتصها ومن فوقها يدوسها. فلا بطاقة تموين لها، ولا قدرة لها على القفز فى توك توك أو الانحشار فى ميكروباص. هذه الطبقة التى يطبق عليها الجميع معايير ارتفاع الأسعار رغم جمود دخلها. السايس يتقاضى منها عشرة جنيهات بديلاً عن الخمسة، و«أم محمد» تقبض منها 200 جنيه بديلاً عن الـ150 رسم «ترويق» البيت، والمكوجى يضاعف فيزيتة كى الملابس، وكذلك السباك والكهربائى والميكانيكى، ومعهم الطبيب والمدرس الخصوصى إلى آخر قائمة الخدمات.
الخدمة الحقيقية التى يمكن لأولى الأمر أن يسدوها لنا فى مثل هذه الأيام العصيبة التى يمر بها الوطن ومواطنوه هى تدبيرنا فيما يمكن أن نفعله. أما وقد زادت أسعار الوقود، ما يعنى زيادة أسعار كل حاجة، على أحدهم أن يخرج علينا ويخبرنا بالوصفات المقترحة لنستمر على قيد الحياة. يعنى مثلاً، سأركب تاكسى غداً، وسيخبرنى السائق أن العداد لا يعمل لأن البنزين زاد، وسأغضب وأهدده باللجوء إلى الشرطة، وسيضحك هو كثيراً وسيوقف السيارة أمام أجدعها ضابط أو أمين شرطة ويدعونى إلى أن أفعل ما بدا لى. وبقية السيناريو معروف لأن لا هذا سينصفنى ولا ذاك سيسعفنى. وسأذهب إلى السوبر ماركت لأجد الأسعار قد اشتعلت، وسألجأ إلى السوق حيث سأفاجأ بالخضراوات والفواكه وقد استعرت.. وهلم جرا.
جرى العرف أن تلجأ الشعوب فى مثل هذه الأوضاع إلى المعارضة. لكن أية معارضة لدينا؟ أهى الأحزاب التى تظهر ظهوراً موسمياً مرتبطاً ارتباطاً شرطياً بنسائم الانتخابات؟ أم هى الثوار والنشطاء الذين يسبون ويشتمون ليلاً ونهاراً على أثير العنكبوت؟ أم هم الإخوان وأبناء عمومتهم؟ دبرونا ماذا نفعل بعد ما كنا نستعد للاحتفال بعيد تخليص مصر من حكم الجماعة؟ بقعة الوقود لطخت ثوب 30 يونيو.