امتلأت الشاشات التليفزيونية والصحف والإذاعات بحملات إعلانية مكثفة طغت على كل الأحداث الدرامية فى المسلسلات واستفزت القارئ والمستمع والمشاهد وتناقضت مع غالبية الثوابت الوطنية التى تمتاز بها الشخصية المصرية وبخاصة فى زمن الأزمة التى نعيشها.
والرصد الأوّلى لمضامين الشعارات الإعلانية للحملات التى تابعها المصريون فى رمضان يبرز بوضوح حالات التشكيك فى الذات وضعف القدرة على اتخاذ القرار فنجد إعلاناً لبنك يقوم على تحقير الابن الشاب الذى يتلقى الإهمال المصحوب بالمهانة من الجميع والسلبية المطلقة من الشاب والصلف غير المبرر من الأب «انت محدش عامل لك حساب.. وفيه بنك....».
ولا أعرف كيف يقدم بنك أموالاً لشاب مهدر القيمة وضعيف وبلا شخصية؟ وكيف نشكك بهذا الأسلوب فى شباب البلد المرجو منه العمل والاجتهاد ثم كيف ندمر قيم الأبوة والبنوة والعلاقة القوية بين الأب وابنه بهذه الوقاحة التى تضر بقيم التماسك والتلاحم بين أفراد الأسرة التى هى حصن المجتمع كله؟
وعلى هذا المنوال ذاته، نجد فى إعلان يفترض أنه يتحدث عن الإنجازات التى تمت فى البلد و«حق المواطن فى المعرفة» يقدم لنا شخصيتين دراميتين سلبيتين «المطبلاتى» و«المقللاتى»، ويأتى التعليق الصوتى بأرقام وإحصاءات دون تعريف بمصدر هذه المعلومات أو تجسيد المعنى فى شخصية إيجابية.. وتكون النتيجة ترسيخ صورة «المطبلاتى والمقللاتى» وضعف أو تلاشى البعد الإيجابى المقصود!! وتستمر حالة التردد على لسان النجمة إسعاد يونس والصحفى إبراهيم عيسى، فكلاهما مرتبك لا يعرف ما سيفعله والطريق الذى يسلكه مع أن المفروض أن كليهما من جيل يعرف الاتجاه الصحيح ولا تُقبل منه هذه الحالة من التردد.. وهناك عشرات الطرق التى يمكن أن تستخدم لتوصيل المعنى ذاته بجرعة ثقة وأمل بعيداً عن جرعة التشكك العالية التى تشوش على الرسالة التى يقدمها كلاهما.
وإعلان آخر يتحدث عن شابين أحدهما يعمل فى وظيفة حكومية والآخر تركها للعمل الخاص ويسرف الإعلان فى تحقير قيمة وعائد الموظف الحكومى مع تعظيم دخل وقيمة وعائد الذى يعمل مشروعه الخاص، والهدف طبعاً تحميس الشباب لإقامة مشروعات إنتاجية وخدمية خاصة.. صورة الموظف الحكومى ستثير الحنق والغضب لدى الموظفين تجاه رجال الأعمال وكأننا نثير الكراهية بين فئات المجتمع وسينعكس سلباً فى التعامل المتعنت من الموظفين ضد أصحاب العمل الحر ونبرر بذلك الرشوة كوسيلة لإنهاء المصالح.. وهى قيم سلبية تتناقض مع مجتمعنا الذى يؤمن بأن كل إنسان يُسِّر لما خُلق له ولا مجال للكراهية بين الناس على أساس مادى بل إن أهمية الموظف الحكومى تتوازى مع أهمية رجل الأعمال فى تنمية المجتمع وتطويره.
والتناقضات فى إعلانات «الشحاتة» (التبرع) لجهات طبية كثيرة وجميعها مكلفة جداً ودفع فى كل الإعلانات عشرات الملايين أجوراً لفنانين ومنفذين وناشرين للإعلان فكيف تصرف الملايين وتطلب التبرع بجنيهات؟ وكيف يطلب المستشفى ذاته لعلاج الأطفال من المرض اللعين التبرع كل عام ومنذ سنوات طويلة مضت وكأن التبرع بلا نهاية؟
ومضمون الإعلانات لا يخلو من التناقضات.. فهذا طفل أصابه المرض وأسرته تروى قصتها بحميمية مؤثرة ثم نكتشف أن الطفل تم علاجه فى الخارج والإعلان يطلب تبرعاً لمستشفى هنا.. والأغرب أن هذا المستشفى تابع لجامعة أعادت مليار جنيه من ميزانيتها إلى الدولة العام الماضى.. أما كان الأوْلى أن تدعم المستشفى بجزء من المبلغ ويكفوهم سمة التسول؟
والإعلانات الخاصة بالرعاية الإنسانية للفقراء لم تهتم بالعائد الإنسانى الاجتماعى بوصفه واجباً من المجتمع أو الجهة المعلنة تجاه الفقراء إنما قدمت الموضوع بطريقة المن والتفضل فبرز التناقض بين الهدف والناتج من الإعلان.
لقد بذل العاملون فى الإعلانات جهوداً واضحة فى أناقة الإعلانات لكنهم للأسف لم يهتموا بالمضمون والانعكاسات التأثيرية الاجتماعية للإعلان التى قد تمتد لسنوات.. ولم يراعوا أننا فى فترة حرجة يمر بها الوطن والمنطقة ولا بد من ترسيخ وتعميق القيم الاجتماعية التى تعمل على تماسك وقوة الشعب والدولة.. احذروا التأثير الممتد للإعلان على المجتمع.. والله غالب.