تلقت شبكة «الجزيرة» دعماً لافتاً خلال الأسبوع الماضى، بعدما بات واضحاً أن إغلاقها أحد أهم الشروط الـ13 التى وضعتها الدول الأربع الرئيسة المقاطِعة لقطر (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر)، من أجل إعادة العلاقات مع الدوحة إلى طبيعتها.
فقد رأى مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان أن «طلب إغلاق قناة الجزيرة هجوم غير مقبول على الحريات»، وأن الامتثال لهذا القرار قد «يمثل سابقة خطيرة تتجاوز الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى من العالم»، لكونه طلباً «شاذاً وغير مسبوق وغير منطقى وغير معقول بشكل جلى».
لم يكن هذا المسئول الأممى هو المدافع الوحيد عن الشبكة الإعلامية الشهيرة؛ إذ انبرى الرئيس التركى أردوغان أيضاً للدفاع عنها، واصفاً طلب إغلاقها بأنه «ضد حرية الإعلام».
قناة «الجزيرة» نفسها ترى أن الحملة عليها تستهدف «حرية الرأى والتعبير»، وتسعى إلى إغلاق «منبر حر للرأى والرأى الآخر»، وإسكات «صوت الموضوعية والمهنية».
أما الحكومة القطرية فتؤكد أنها لن تغلق القناة، وأن استمرار عملها «أمر سيادى»، بل إنها ترى أن المطالبة بإغلاق «الجزيرة» من الأسباب التى تجعلها تعتقد أن قائمة الشروط الـ13 «تعجيزية» وغير قابلة للتنفيذ.
لسنا فى حاجة إلى تأكيد أن تنظيم «الإخوان» بطبيعة الحال يدافع عن القناة بشراسة واستماتة؛ إذ يرى فيها المنبر الأهم لبث دفوعه وترويج سياساته، لكن الأهم من دعم هذا التنظيم للقناة هو مساندة قطاعات من الرأى العام العربى، وبعض المعارضين السياسيين للنظم القائمة، وبعض الليبراليين واليساريين، المؤمنين بحرية الرأى والتعبير، والموقنين بأن «الفكر لا يقارَع إلا بالفكر»، وأن المصادرة والإغلاق عمل من الماضى السحيق، ودليل فاشية واستبداد.
لا يمكن التعاطى مع جميع المدافعين عن شبكة «الجزيرة» من منطلق واحد وبمنطق واحد؛ إذ يتسع طيف هؤلاء المتعاطفين مع الشبكة ليبدأ من زعماء براجماتيين مثل أردوغان، ويمر بمنظمات مصنفة إرهابية مثل «الإخوان»، وحكومات منبوذة مثل الحكومة القطرية، قبل أن يصل إلى دعاة حقوقيين محترمين، ومؤسسات أممية معتبرة، ومعارضين سياسيين مشهود لهم بالإخلاص لمواقفهم.
سيسهل جداً بالطبع تفنيد حجة أردوغان، لأنه ببساطة يمكن إثبات أنه لا يؤمن بحرية الرأى والتعبير ولا يحترمها.
فقد شن الرئيس التركى حرباً على بعض القنوات التركية المعارضة التى كانت تبث من خارج تركيا، وضغط على الدول التى تستضيفها حتى أغلقتها، على الرغم من أن تلك القنوات تنطق بلسان حال الأكراد الأتراك، الذين يتهمون الحكومة التركية باضطهادهم وحرمانهم من حقوقهم.
لقد استطاعت أنقرة أن تغلق قناة كردية تابعة لحزب العمال الكردستانى فى بلجيكا، وثلاث قنوات فى الدنمارك.
وعلى الصعيد الداخلى، يكفى أن نعرف أن منظمة «مراسلون بلا حدود» وصفت تركيا بأنها «أكبر سجن للصحفيين فى العالم»، بعدما بلغ عدد الصحفيين والإعلاميين الذين اعتقلهم أردوغان نحو مائتى صحفى وإعلامى.
لقد أغلق الرئيس التركى نحو 178 وسيلة إعلام تركية، وأوقف عمل منصات تواصل اجتماعى رئيسة مثل «يوتيوب» و«تويتر»، وأجبر وسائل إعلام تقليدية على تغيير سياساتها التحريرية، أو التنازل عن حصص من ملكيتها، وهو الأمر الذى أخذ تركيا إلى ذيل قوائم حرية الرأى والتعبير فى التصنيفات العالمية المعتبرة.
لا يجوز لأردوغان أن يدافع عن «الجزيرة» بذرائع الانتصار لحرية الرأى والتعبير، وهو الأمر ذاته الذى ينسحب على تنظيم «الإخوان» الذى جسد لنا أنموذجاً مناهضاً لحرية الرأى والتعبير فى السنة التى اعتلى فيها السلطة فى مصر.
بالنسبة إلى الحكومة القطرية يكفى أن تراجع سجلها فى مجال حرية الرأى والتعبير، لتعرف أنها ليست من الدول الحريصة على كفالة هذا الحق، أما «الجزيرة» نفسها فهى تدرك أنها كانت حرة فقط فى استهداف الدول التى لا ترضى عنها الدوحة، أما الحكومات الصديقة والحليفة فقد كانت بمنأى عن أى استهداف.
لم تكن تلك حرية رأى وتعبير بالمعنى المعروف، لكنها كانت استخداماً لحرية الرأى فى التنكيل بأنظمة معينة ونصرة أنظمة أخرى، وفق ما تقرر سياسات الدوحة.
يصعب جداً على أى حقوقى أو إعلامى أن يبرر أو يتسامح مع إغلاق أى منصة للتعبير عن الرأى، لكن هذا الأمر يصبح مقبولاً، بل ضرورياً، حين تنتهك تلك المنصة حقوقاً أخرى أو تفتئت على مصالح آخرين.
وثمة العديد من الوقائع التى يمكن أن تشرح رد فعل بعض الدول المتقدمة إزاء الممارسات الإعلامية المتجاوزة من وجهة نظر «أنساق المساءلة العمومية» (الحكومية وغير الحكومية) للأداء الإعلامى.
فى شهر يوليو من العام 2004، قرر المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئى فى فرنسا تقديم طلب إلى «مجلس الدولة» لإيقاف بث قناة «المنار» على الأقمار الاصطناعية الأوروبية داخل البلاد؛ وهو الأمر الذى حدث بالفعل فى غضون العام نفسه، بعدما اتهمت سلطات الإعلام الفرنسية القناة بأنها «تبث محتوى لا يمكن احتماله».
وقبل أيام قال رئيس السياسات العامة فى الشركة المسئولة عن موقع التغريدات الشهير «تويتر» إن شركته حذفت أكثر من 600 ألف حساب بسبب ترويجها للإرهاب وتحريضها على العنف.
ثمة خطايا كبرى لا يمكن التسامح معها حين تقع من وسائل إعلام؛ وهى التحريض على العنف، وإشاعة الكراهية، والترويج للإرهاب، وهى خطايا وقعت فيها قناة «الجزيرة» بوضوح شديد.
ربما يتحدث المفوض الحقوقى الأممى عن «الجزيرة» انطلاقاً من نسختها الرشيدة «الجزيرة إنترناشيونال» الناطقة بالإنجليزية، ولعله لم يشاهد بعض برامج «الجزيرة مباشر مصر» و«الجزيرة مباشر سوريا»، التى كانت تدعو إلى قتل الضباط المصريين والسوريين، وتهدد العاملين بالقضاء، وتروع أسرهم.
كانت تلك النسخ من «الجزيرة» بمنزلة أدوات قتال فى معركة أرادت منها تلك الشبكة، ومن ورائها الحكومة القطرية، تقويض الاستقرار فى دول عربية، وإسقاطها، وتدميرها، وتولية جماعات متطرفة الحكم فيها.
على مدى السنوات التى تلت اتفاق الرياض الأول فى 2013، توقفت «الجزيرة» عن مهاجمة السياسة السعودية والإماراتية، ولم ترَ أبداً ما يستدعى تسليط الضوء على أى سلبيات فى كلتا الدولتين على سبيل المثال، لكن بمجرد أن اندلعت الأزمة الأخيرة، راحت «الجزيرة» تخصص ساعات البث الطويلة لانتقاد الدولتين، وشن الهجمات عليهما، وتلطيخ سمعتهما بقدر الإمكان.
تشير تلك السياسة غير المهنية إلى دأب «الجزيرة» وصنعتها التى أتقنتها دوماً، أى استخدام الإعلام فى شن الهجمات السياسية أو صنع السلم، تنفيذاً لأغراض السياسة القطرية.
وعندما تزايدت الضغوط على الدوحة، اضطرت إلى التضحية بإصدارها المشوه «الجزيرة مباشر مصر»، ما يعنى أنها تقبل الضغوط فى هذا الصدد، ولا تعتبر إصداراتها الإعلامية تجسيداً للسيادة الوطنية، وتعبيراً عن حرية الرأى والتعبير.
ليس من الضرورى أن تغلق قطر «الجزيرة»، لكن من الضرورى والمهنى والأخلاقى أن تغير سياساتها التحريرية بشكل يحد من أضرارها الخطيرة، وهؤلاء الذين يدافعون بحسن نية عن «الجزيرة» انطلاقاً من دوافع حقوقية وأخلاقية، نقول لهم إن تلك الدوافع بالذات تستلزم إيقاف ما تبثه تلك القناة من كراهية وتحريض على العنف ومساندة للإرهاب.