حدثونى عن الفساد وعادوا وزادوا وأسهبوا وقارنوا بيننا وبين أوروبا والدول المتقدمة، وقالوا إن ما نحن فيه تخطى الحدود وفاق التوقعات. نعم، هكذا جلست أستمع لمجموعة من الشباب المحبط المناقش لحملة بدأتها الرقابة الإدارية عن الفساد فى رمضان، تحت شعار: «لو بصينا فى المرايا حتبقى دى البداية»- فى إشارة لمواجهة النفس الممارسة للفساد كأولى خطوات الإصلاح- وأكد الملتفون حولى أن الحملة قد تكون جيدة، ولكنها تحمّل المواطن عبء المواجهة، كما تحمله عبء الإصلاح من دون القانون.
قلت إن الحملة جزء ثان لسلسلة حملات بدأتها الرقابة المالية العام الماضى، وتناولت فيه مكافحة الفساد عن طريق التركيز على بعض ملامحه التى اعتادها الناس للفت أنظارهم لخطورة تعطيل أو أخذ حق الغير. ثم جاءت حملة هذا العام لتضرب جرس إنذار فى النفوس التى اعتادت ممارسة الفساد، فبات سلوكاً مكرراً نمارسه كلنا على كلنا كدورة حياة دودة الإسكارس، ونشكو من قسوته، فبتنا بحاجة لمواجهة أنفسنا فى مرآة أنفسنا.
ثم قلت: دعونا نتفق على بعض الأمور لندرك حجم ما نواجهه وطريقة مواجهته، فالفساد صفة إنسانية وصف بها الإنسان من قبل وجوده كمخلوق، فحينما أخبر الله عز وجل ملائكته بأنه سيخلق بشراً على الأرض، تعجبت الملائكة من خلق بشر سيفسد فى الأرض ويسفك الدماء فيها! إذاً، نحن مخلوقات سيئة السمعة لدى السماء من قبل حتى وجودنا، ثم إن نصف أهل الأرض مارس الفساد مع نصفهم الآخر قبل تناسل البشرية بهذا العدد، فقد غار قابيل من هابيل وطمع فى مكانته وقتله. ما أعنيه أن ادعاء تفشى الفساد فى العالم حولنا على وجه العموم، وفى بلادنا على وجه الخصوص بشكل سارق للأمل ومثير للإحباط ادعاء يفتقد للمعلومة والتحليل، وبه الكثير من التجنى إذ إننا فاسدون منذ البداية.
ثم قلت: وحينما تقارنون بين بلادكم وبين الدول المتقدمة فى الفساد ونسبه، لا بد أن أتفق معكم فى تعالى نسبه لدينا، ولكن هناك نقطة فلسفية فى الأمر مفادها أن قلة الفساد فى الخارج منبعها الخوف من القانون وتطبيقه بحسم، بمعنى وجود الخوف من الوقوع تحت طائلة القانون، أما فى بلادى فالذى يتقى شر فساد نفسه ومن حوله، فغالباً ما يكون ذلك بوازع من ضمير وتربية وتدين لا خوفاً من قانون هو يعلم تواريه، وتلك نقطة فى صالحنا علينا استغلالها إن أردنا القضاء على الفساد. التربية والتربية والتربية والتربية أساس فى بلادنا للقضاء على الفساد، ولكنها فقط أساس، ولا يمكن الاعتماد عليها بشكل مطلق.
أتفق تماماً أن هناك حالة من تفشى عفونة الفساد فى بلادنا رغم ما يتم الإعلان عنه من قضايا والقبض على فاسدين. والسبب غياب تعريف الفساد بعد أن بات سلوكاً وعادة من أبسط الأمور لأكبرها. فالفساد لا يقتصر على الرشوة واستغلال النفوذ، لكنه ممتد لأكثر من هذا فى أدق التفاصيل، وعلينا تعريفه للناس وتدريس مقاومته ليكون رفضه جزءاً من سلوك ومكافحته مسئولية قانون، فما يحدث فى مصر ليس مكافحة لفساد بقدر ما هو إلقاء قبض على فاسدين، أى أننا نقبض على من يتم اكتشافه من ممارسين للفساد وغالباً ما يكون ذلك فى قضايا كبيرة، ولكن لا نكافح الفعل ذاته. ومكافحة الفعل تحتاج رقابة فى المؤسسات وسرعة محاسبة الفاسد وإعلان فساده، ليكون عبرة لمن حوله، فمن المهم حبس الفاسد ولكن الأهم محاكمته بنفس سرعة القبض عليه، وإعلان ذلك على الملأ ليكون عبرة تردع فاسدين آخرين، كما أن على كل منا دوراً يتمثل فى رفض الفساد، حتى لو كان تخطى دور فى طابور أو إنهاء مستند لك حق فيه.
نعم، ربما تكون البداية النظر فى مرايا أنفسنا لمواجهتها بما نفعله ولكننا نحتاج لقانون يردعنا، فتلك طبيعة بنى آدم منذ الخليقة... الردع بقانون حاسم.