التعبير عن الناس وأحلامهم وطموحهم هو رسالة، وهم يرتبطون بك من أجلها.. والأعمدة الصحفية حكايات وحواديت، ومن الأعمدة التى ودعتها مصر، لكنها ظلت فى الذاكرة، عمود «ما قل ودل» لأحمد الصاوى محمد، شيخ شيوخ الصحفيين، الذى قدمته «هدى شعراوى».. وأيضاً «على مقهى فى الشارع السياسى» لإحسان عبدالقدوس، الذى كانت إحدى مقالاته سبباً فى كشف صفقة الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين.
الصفحة الحادية عشرة من «الأهرام» شهدت لسنوات تجاوراً لعمودين مهمين هما «صندوق الدنيا» لأحمد بهجت، و«مجرد رأى» لصلاح منتصر، قبل أن يفترقا وينتقل الصندوق للصفحة الثانية، وكان مهتماً بالقضايا الفلسفية ذات البُعد الإسلامى المعتدل.. أما «مجرد رأى» فقد انشغل بالقضايا الاجتماعية (مقال «سيد قرارك» الذى ينتقد عادة التدخين تم إقراره على طلبة الثانوية العامة).
وهناك «يوميات» الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، الذى اتصف بالعقلانية وعمق الثقافة وبُعد النظر، وكان كثيرون يبدأون قراءة الأهرام بالصفحة الأخيرة تقديراً لهذا العظيم.. وكانت آخر معاركه هى سلسلة مقالات بعنوان «جريمة العصر» تحدث فيها عن تهجير يهود الاتحاد السوفيتى ويهود الفلاشا الإثيوبيين لإسرائيل.
واجه «بهاء الدين»، سطوة الإعلان وانتصر للتحرير بطريقة محترمة، والقصة أنه كان، بالطبع، عدواً للخزعبلات، وكانت ظاهرة «الشيخ الفاسى» السعودى فى صعود بمصر، فكتب عنه ما يستحقه.. وكان للفاسى مجموعة إعلانات بالجريدة، وبناء عليه رفض «الأهرام» نشر المقال.. وأصبح الوضع عبثياً، كل يوم يذهب مندوب الجريدة لأخذ المقال الجديد من الكاتب، فيسلمه هذا الأخير المقال نفسه الذى مُنع، وهكذا لفترة طويلة.. وانتهت الأزمة بحل وسط عبر مقال جميل عن العلاقة المثالية بين الإعلان والتحرير.
أما «الأخبار» فكان بها «فكرة» مصطفى أمين، الذى كان فى الأصل يكتبه شقيقه «على» حتى وفاته، ومن مقالاته الشهيرة «الهرولة» التى تحدث فيها عن الانتقال السريع لأعضاء حزب مصر إلى الحزب الوطنى الذى أنشأه الرئيس السادات (أُوقف العمود لفترة بعد هذا المقال).. وبعد وفاة مصطفى أمين، ظل العمود يُنشر أبيض فارغاً دون محتوى لأسابيع.
فى «الأخبار» أيضاً «نص كلمة» أحمد رجب، الذى دربه «على أمين» على الاختصار فى كتابته (كان يطلب منه تلخيص مواضيع من أربعين صفحة فى عشرة أسطر).. ولا ننس عمود «دخان فى الهواء» لجلال الحمامصى، وكتب فيه سلسلة مقالات بعنوان «مين هرب الست؟» وكان يقصد المرأة الحديدية «هدى عبدالمنعم» بأموال البنوك، ومات دون أن يعرف إجابة السؤال (تم إنتاج فيلم عن هذا الموضوع تحت اسم «هدى ومعالى الوزير» بطولة الفنانة «نبيلة عبيد»).
عمود «بصراحة» للأستاذ محمد حسنين هيكل، من أهم الأعمدة الصحفية المصرية على الإطلاق.. ومن أشهر مقالاته «موانع طبيعية وموانع صناعية» التى كانت إرهاصة للعبور، ومقال «عبدالناصر ليس أسطورة» الذى عرضه للمحاكمة أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، ثم سلسلة مقالاته عن الحل المنفرد، التى عرضته للمحاكمة أمام المدعى الاشتراكى، ووقتها قدم هيكل لمن يحاكمه صورة من القرار الاستراتيجى للعبور الذى كتبه بتكليف من السادات، وعندما سأله المحقق: «وكيف أعرف أنك كتبته؟» قال كلمته الشهيرة: «أسلوب الكاتب كبصمات أصابعه».
لكل عمود صحفى عظيم بصمة؛ لأنه ليس «عمود دخان» يطير بطيران صاحبه.. وفى عصر التطرف وأنماط التعبير الحادة، المؤيدة والمعارضة، يحاول عمودنا المتواضع «عنبر العقلاء» أن يقف فى بقعة موضوعية قد لا يرضى بها الكثيرون، ولكن الكلمة أمانة، ولن ينتفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه.. جعلنا الله من أصحاب البصمات.. العاقلة.