أستاذنا «نجيب محفوظ» له قصة قصيرة بديعة هى «الحوادث المثيرة» بطلها ضابط مباحث يقتفى أثر سفاح هارب يقتل ضحاياه من النساء بطريقة واحدة.. ولأسباب غامضة.. ويهرب متنقلاً فى شقق مختلفة بأحياء متباعدة.. يتمكن الضابط من الوصول إلى عنوان سكنه الأخير فى إحدى الشقق المفروشة.. يهرع إلى هناك لكنه يكتشف هروبه قبل وصول الضابط بدقائق.. يحاول فك طلاسم شخصيته ودوافعه إلى الجريمة من خلال سؤال سكان العمارة.. فتتناقض شهاداتهم بصورة مذهلة.. يراه بعضهم قديساً ورعاً مثالاً للخلق القويم.. والفضيلة السامية، حيث يداوم على الصلاة والتعبد والإحسان على الفقير والتبرع للأيتام.. ويشاهدونه خارجاً من المسجد بعد صلاة الفجر كل يوم فيأنسون إلى محادثته والاستفادة من تفقهه فى أمور الدين.. بينما يراه آخرون رجلاً داعراً ماجناً يقيم السهرات الحمراء محولاً شقته إلى بؤرة فسق ودنس كل ليلة.. وكثيراً ما يُشاهد خارجاً من الخمارة القريبة فى الفجر يترنح من فرط السكر.. يراه البعض رجلاً رقيقاً مرهف الحس عطوفاً.. يجلس على سلالم العمارة.. يربت على القطط الضالة ويطعمها فى حنان دافق.. بينما يراه آخرون قاسياً ذا ميول سيكوباتية حادة.. فهو يطارد القطط فى مدخل العمارة ويسعى إلى خنقها فى سادية وعنف.. وهكذا تتناقض الشهادات.. وتختلف الرؤى.. وتتداخل التصورات.. وتتضافر التفسيرات.. وتتشابك التلاسنات وتتباعد الآراء.. وتتعارض الاجتهادات.. وتتضارب الميول والمشاعر.. ويسود الهوى الشخصى.. وتتوارى الموضوعية.. وتتوه الحقيقة.. ويسيطر الغموض.. ويتضخم الالتباس.. تذكرت هذه القصة وأنا أتابع مسلسل «الجماعة».. بل وأنا أتابع أى عمل درامى ذى خلفية تاريخية أو يحمل سيرة ذاتية لزعماء أو ساسة أو مفكرين أو أبطال أو علماء مشاهير أثروا ماضينا بأعمالهم المجيدة.. وإنجازاتهم التاريخية.. فللحقيقة أوجه مختلفة.. ولليقين صور متنوعة.. والنفس الإنسانية الملغزة ترى الوقائع مصبوغة بانطباعاتها الخاصة وتبريراتها المتباينة مختلطة بإنجازاتها الشخصية وزاوية الرؤية وطبقاً لما يحبون ويكرهون.. وبناء على مفاهيم خبراتهم وطريقة تفكيرهم، ووفقاً لعمليات إسقاط وإزاحة وسواء نفس.. أو انعدام القدرة على التكيف مع المتغيرات.. ويشمل الخلاف فى النهاية الرفقاء كما يشمل الأنداد..
ومثلما يرى الكثيرون مثلاً أن «جمال عبدالناصر» كان إخوانياً عتيداً انضم إلى الجماعة ووضع يده على المصحف والمسدس وحلف يمين الطاعة للمرشد العام فى المنشط والمكره (الخير والشر).. وأعلن البيعة التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله.. بينما يرى آخرون وعلى رأسهم «خالد محيى الدين» أن «جمال عبدالناصر» كان يتفاهم مع الإخوان ويتفاهم أيضاً مع الشيوعيين، ولم يكن هناك غضاضة فى ذلك.. لكنه كان حريصاً على ألا يسمح لرأى طرف منهما بالسيطرة عليه.. أو التحكم فى مسيرة تنظيم الضباط الأحرار.. بل إنه كان على علاقة بـ«يوسف رشاد» ولم يحمل هذا أى شك فى خضوعه للقصر الملكى الذى كان «يوسف رشاد» ممثلاً له.. ولعله حاول أن يفعل نفس الشىء مع «أمريكا».
كانت سياسة «عبدالناصر» إذاً سواء قبل الثورة أو بعدها.. هى.. هى.. أن يقيم علاقات مع كل الأطراف وحتى مع الخصوم.. وكان يرى أن إقامة هذه العلاقات لا تعنى الخضوع.. ولا تعنى العمالة.
أما فيما يتصل بإقامة «محكمة الثورة» التى تعرض لها أيضاً المسلسل، فإن الجدل حولها يعد -فى رأيى- نموذجاً فريداً وصارخاً لـ«أزمة الديمقراطية» والاختلاف الرهيب حول مفهومها وجدواها وتناقضها مع حقيقة ما يحدث على أرض الواقع.. وتصلح مادة لعشرات بل مئات المقالات والأبحاث.. وخاصة فى تلك الفترة الفارقة فى مصير مصر بعد ثورة يوليو (1952).
أعلن «صلاح سالم» عضو مجلس قيادة الثورة.. عن الدعوة إلى عقد اجتماع شعبى فى ساحة قصر «عابدين» لسماع قرار خطير تعلنه قيادة الحركة.. وحسب كتاب أحمد أبوالفتح «عن جمال عبدالناصر» أشار إلى أن «صلاح سالم» هاجم من ينادون بالحكم الديمقراطى ووصفهم بالخونة.. ثم أعلن فى الاجتماع باسم مجلس الثورة تشكيل محكمة الثورة من بعض ضباط مجلس قيادة الثورة، حيث تنظر هذه المحكمة فوراً فى قضايا المتهمين بالعمل ضد مصلحة البلاد وضد كيان الثورة.. وفى الوقت الذى كان فيه «صلاح سالم» يعلن فيه عزمه وعزم زملائه على تشكيل محكمة عسكرية جديدة.. كانت عمليات القبض والاعتقال تتم لتتناول أهم الشخصيات باستثناء «مصطفى باشا النحاس»، ورأت المعارضة وقتها أن مثل هذا الإجراء صورة من صور اغتيال العدالة وعدم احترام القوانين الوضعية والدستور وحرية الصحافة وإهدار آدمية الإنسان.. حيث تلفيق الاتهامات، ويتضح ذلك فى المادة الثانية التى تحدد اختصاص المحكمة بالنظر فى الأفعال التى تعتبر خيانة للوطن.. وكذلك الأفعال الموجهة ضد نظام الحكم الحاضر.. أو ضد الأسس التى قامت عليها الثورة، وبالنظر فى الأفعال التى ساعدت على إفساد الحكم وتمكين الاستعمار من البلاد وكل ما كان من شأنه إفساد الحياة السياسية أو استغلال النفوذ.. وأحكام هذه المحكمة نهائية ولا تقبل الطعن بأى طريقة من الطرق أو أمام أى جهة من الجهات.. وكذلك لا يجوز الطعن فى إجراءات المحاكمة أو التنفيذ.
وبدأ مجلس القيادة أعمال محكمته الجديدة بالقضية التى اتهم فيها إبراهيم عبدالهادى باشا.. أحد زعماء الأحزاب السياسية ورئيس وزارة سابق.. وقد كان خصماً عنيفاً للإخوان المسلمين وفى عهده قتل «حسن البنا» مؤسس الجماعة.. واجهته المحكمة باتهام أنه أتى أفعالاً تعتبر خيانة للوطن وضد سلامته والأسس التى قامت عليها الثورة.. وذلك أنه فى غضون عام (1953) عمد إلى الاتصال بجهات أجنبية تهدف إلى الإضرار بالنظام الحاضر ومصلحة البلاد العليا.. وصدر الحكم بإعدامه..
وهنا تبرز مفارقة مدهشة وهى أن إبراهيم عبدالهادى المتهم بالعمالة للإنجليز هو نفسه الذى سبق أن صدر حكم ضده بالإعدام فى سنة 1919 عندما كان طالباً يجاهد مع الطلبة فى تخليص مصر من الاحتلال البريطانى وخففت السلطة البريطانية الحكم لصغر سنه.
أى أن الرجل رآه الإنجليز خصماً لهم يستحق الإعدام..
هو نفسه الرجل الذى رأته محكمة الثورة عميلاً للإنجليز.. وطالبت بإعدامه.
المفارقة الأخرى أنه فى اجتماع مجلس الثورة الذى دعا للتصديق على الأحكام.. أصر خالد محيى الدين على رفض إجماع الأعضاء بتنفيذ حكم الإعدام، ويقول فى كتابه المهم «والآن أتكلم» إنه فى هذا الاجتماع حكى لهم قصة (ساكو وفنزين) العاملين اللذين حكم عليهما بالإعدام وبعد عشرين عاماً ثبتت براءتهما وما زال العمال يحتفلون بعيد أول (مايو) كرمز لاحتجاجهما على هذا الحكم الجائر.. وخاصة أن «جمال عبدالناصر» كان قد تحدث معه شاكياً من «صلاح سالم» لخطأ تقديره أن هناك وثيقة تدين «إبراهيم عبدالهادى» وهى فى الحقيقة لا تعدو كونها «كلام عادى».. يتم بناء على ذلك إلغاء حكم الإعدام بالنسبة لجميع المتهمين وتمضى سنوات عديدة ويقابل «خالد محيى الدين»، إبراهيم عبدالهادى باشا فى المنتزه بالإسكندرية.. فيصافحه بحرارة قائلاً: «أنا مدين لك بحياتى»..
وهكذا الأيام.. وهكذا البشر..