كعادة كل يوم، كنت فى طريقى إلى حيث أعد شاى الصباح، مررت بحجرة ابنى محمد، ظننته نائماً، فاليوم جمعة، وما زالت ساعات تفصلنا عن موعد الصلاة.. كان الباب مفتوحاً، و«محمد» بكامل ثيابه جالساً، مطرقاً، على طرف فراشه، واضعاً وجهه بين كفيه وأنّات مكتومة تخرج رغم محاولة الكتمان بالكفين.. لم أستوعب ما أرى، ووجدتنى من مكانى أصرخ: ما لك يا ابنى فيه إيه؟.. رفع وجهاً غارقاً فى دموع، تتالى معه «تهتهات» لا تسمح بتبيان ما يقول بوضوح.. رحت أكرر رجائى: «فيه إيه يا حبيبى؟..»، هرعت أخته «ماجى» إلينا، وقد استنجد بها، يسبقها ذعر ولّده صوتى ونهنهاته.. «مالك يا أخويا؟».. هكذا تعودت منها.. لا تناديه محمد، فى اللحظات الصعبة.. يصبح «أخويا».. تبادلنا احتضانه، ونحن نستجديه أن يفسر.. حتى راح يردد بصرخات متحشرجة: «أحمد.. أحمد.. أحمد استشهد..»، وتحولت الدموع إلى نشيج ونهنهات.. لا أتذكر أننى يوماً رأيته يبكى.. ربما كنت أحس رقرقات عينيه، لكنى فعلاً لم أره يبكى أبداً.. حتى يوم فقد أباه، كان قادراً على دفن حزنه دوماً فى جب يعرفه «الصعايدة».. ربما اختلى بنفسه فى ليلة وأغلق عليه الباب.. لكن رحيل توأمه وصديق عمره العقيد أحمد صابر المنسى، قائد كتيبة الصاعقة برفح كان متجاوزاً للطاقة. كان أحمد المنسى حاضراً دوماً بيننا، كأنه ابن لم ألده، وشقيق لابنى لم أشرف بتربيته كما هو الآن ابن لكل أمهات وآباء مصر.. أعرف عنه بأكثر ما أعرف عن محيطين بى.. تفاصيل إنسانية، تحسها أقرب إلى «الأسطورة».. كيف يتبادل رعاية والدته مع شقيقين، حتى فى أدق الأمور.. علاقته بأبنائه الثلاثة، الذين تتراوح أعمارهم بين عامين وتسعة أعوام.. ابنه الكبير أحد أبطال الجمهورية فى الجمباز.. كيف كان يواظب على زيارة قبر «الشهيد إبراهيم الرفاعى»، ليس لمجرد قراءة الفاتحة، قال لى «محمد» ابنى يوماً إن أحمد المنسى كان يروى للرفاعى ويحكى معه. كنت أعرف أنه فى كل إجازة له، يحط الرحال فى الشرقية، موطنه الصغير، ثم يعرج على القاهرة، ليذهب هو ومحمد الغيطانى إلى زيارة الفريق عبدالمنعم خليل، متّعه الله بالصحة والعافية، كأنهما يجددان عهداً، كل فى مضماره واهباً نفسه بإخلاص للبلد.. فى مرة وصف «محمد»، الشهيد أحمد المنسى بأنه «الضمير»، وكان ذلك كافياً لأراه بوضوح.. فى الصباح الباكر لثانى يوم للعيد، جاء تليفون منه: لديه ساعات قليلة ويود لقاء «محمد» على الإفطار.. جاء إلى حيث نسكن.. تناولا معاً الإفطار، ثم تبادل التوأمان بعد الإفطار، تذكارات بغير ترتيب.. أعطاه «محمد» كتاب «المصريون والحرب» لجمال الغيطانى وكتاباً عن اليهود للدكتور جمال حمدان، وأهدى أحمد لمحمد تيشيرت خاصاً به.. تيشيرت حمله معه من رفح، عليه شعار الصاعقة. الآن أفهم الرسالة.. أحمد صابر المنسى امتداد الشهيد إبراهيم الرفاعى.. عاصر جمال الغيطانى، وعايش الشهيد إبراهيم الرفاعى ووثّق بطولاته فى رواية الرفاعى، وها هو الامتداد. مصر شجرة لا تنضب. جيل يسلم جيلاً، لتبقى مصر، ويبقى لك بيت وسقف ومدرسة.. الشهيد العقيد أحمد صابر المنسى، رمز جديد، لكل شهدائنا، أيقونة تضاف لتاج مصر، تتضاءل كل صنوف التعبير أمامها. أمضيت الجمعة الحزينة أسترجع نظرة أخيرة، حين سأله محمد بعد الإفطار: «هتعرف تخرج من المعادى؟» أجابه بنظرة طويلة وكلمتين: «ما تخافش علىّ».. استشهد العقيد أحمد صابر المنسى وسط رجاله، كما استشهد عبدالمنعم رياض وإبراهيم الرفاعى.. استشهد «أحمد» عند أقصى نقطة للحدود.. وعند نقطة أخرى قصية من الحدود، كان بعض من أهل مصر الذين افتداهم، مشغولين بظهور «الجيلى فيش» على ساحل مصر الشمالى، ما نغص عليهم أيامهم الصيفية، وكدّر ساعات مصيفهم، وكان الله فى عونهم وهون عليهم ما اعتبروه، من تداعيات شق تفريعة جديدة لقناة السويس، وحملت إلينا بعض التقارير، أنباء وصوراً، عن بعض ممن يسمون أنفسهم رجال الأعمال، فى رقصات وأفراح، ما يؤكد نجاتهم من فخ «الجيلى فيش»، بنظراتهم الاستباقية، وحنكتهم التى لم تفلح «أزمة البلد» فى زحزحتها ولا زحزحتهم عن التشبث بشعار «عض قلبى ولا تعض رغيفى».. وبينما كان أحمد المنسى يفتدى الأرض، شهدت آخر جلسات مجلس النواب محاولات من بعض الأعضاء لرفع مكافآتهم من خمسة وعشرين ألف جنيه إلى خمسة وثلاثين ألف جنيه، ليتمكنوا، أعانهم الله، من مواجهة الغلاء، ووافقهم رئيس المجلس، معارضاً من طالبوا بأن تقتصر الزيادة على نسبة خمسة عشر بالمائة، أسوة بالناس الذين يمثلونهم، وعضد رئيس المجلس وجهة نظره بأن موازنة مجلس النواب المصرى من أضعف موازنات المجالس النيابية فى العالم، حتى بعدما تم رفعها من ٩٩٧ مليوناً إلى مليار و٣٠٠ مليون.. وفى اللحظة التى كان الشهيد أحمد المنسى، بين يد ذى الجلال والإكرام، كنت أدعو: اللهم أعنا على أنفسنا، واجعلنا أهلاً لتضحيته.