لعلّها الرحلة الأطول فى حياة الإنسان، هى سياحته الفكرية فى البحث عن ذاته، والسّير بصحبتها، سعياً لأعلى درجات الصفاء والنقاء والارتقاء حتى الاكتفاء، ثمّ الاستغناء، وإدراك أسمى معانى الحياة وأعمقها؛ معانٍ تودع روحك إلى ما فى الآخرة من مجد أبدى، وتستبقى فى الدنيا على جسدك حتى يُكتب له الزوال، فيزول كأنه لم يَكن.
أَحرص فى رحلتى القاهرية الصيفية كل عام على أن أحظى بحضور عرضٍ مسرحىّ يكسر بتميّزه قالب المألوف، ويحلّق خارج السّرب فى آفاق الإبداع، فكنت فى زيارتى الأخيرة على موعد مع عرض استثنائى لمسرحية «قواعد العشق الأربعون»، قدّمته فرقة المسرح الحديث بالبيت الفنى للمسرح بوزارة الثقافة. تدور فكرة العرض المسرحى حول رواية شهيرة للروائية التركية (إليف شفق) عام 2010، التى حققت مبيعات ضخمة تجاوزت الملايين، ولهذا لم يكن مستغرباً أن يحقق العرض المسرحى أعلى إيراد فى تاريخ مسرح الدولة خلال شهر واحد، برغم ضعف الإمكانات، وقلة الموازنات المخصصة لهذا الإرث الثقافى الفنى الأدبى الهام.
على خشبة المسرح الصامد حتى زماننا الرقمى هذا، يُطلّ علينا بطل المسرحية «شمس التبريزى»، عرّاب القواعد الأربعين للعشق الإلهى، وهى قواعد تبدو غير عقلانية فى بعض الأحيان، ومتى كان العشق بكل حالاته يركن إلى العقل فى شىء؟! ولكنها أقرب إلى حالة مجازية وتأملية كونية تُوقع المشاهد فى حالة استلاب واستلهام حين تطرق مسامعنا بعض من هذه القواعد، مثل «مهما حدث فى حياتك لا تدخل فى ربوع اليأس، لأن الله سيفتح درباً جديداً»، و«الصبر أن تنظر إلى الليل وترى الفجر»، وعلى الجانب الآخر يُطلّ عليك ثنائى البطولة العارف بالله وصاحب الخطاب الكونى الشمولى الصوفى الفريد فى زمانه «جلال الدين الرومى»، وما يحمله من فهم لعلاقة الخالق مع المخلوق، وتعدد الطرائق إلى الله، وعلى امتداد العرض تدرك «افتتان» الرومى بشمس التبريزى، ليصبح تابعاً له، ومريداً لكل قولٍ أو أمرٍ يراه درويشه «التبريزى».
ولأن عمق الجمال يكمن فى البساطة، فقد تميز العرض بالسهل الممتنع، مع التركيز على المشترك الإنسانى الحياتى الكونى، ورسم لوحة غنائية تشكلت من عدة وقفات غنائية أهمها (7) ابتهالاتٍ صوفية بصوت «سمير عزمى» الدافئ، الذى أضفى على الكلمات مساحات عريضة ومعانى أعمق، خاصة حين أنشد مديحاً فى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأجمل منك لم ترَ قط عينى.. وأفضل منك لم تلد النساء». كما جاء أداء الفنان «بهاء ثروت» مبهراً فى تجسيد شخص «التبريزى» الدرويش الذى يشاركنا الكثير والمثير من خلال سياحته الحياتية وأطواره المتعددة ودروبه التى تقاطعت مع «الرومى»، وروحه التى ائتلفت معه فى مراحل عديدة من رحلته.
بين حنايا العرض يكمن عالم آخر غير الذى نُعايشه، ورسالة أوسع من ضيق أفهامنا، رسالة فى أمَسِّ الحاجة إلى أن تتلقفها مجتمعاتنا المتناحرة المتمترسة خلف ضيق الأفق والاحتراب والاغتراب والتربص، رسالة العرض ببساطة أن المحبة حياة، والتسامح علوّ، والتعايش نجاة، والحكمة رقىّ، والقبول سعة صدرٍ وسموّ فكر، والرابط الإنسانى الكونى أوسع وأشمل من الكراهية والتعصب والبغضاء، وأن ألوان الإنسانية وأطيافها وتنوّعها يجب أن يكون لها فى أخلاقنا اعتبار، وفى حياتنا مكانة، وأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، ولكنّ الشرور دقّت ناقوس التفرقة فأذعنّا لها صائغين، ولولا تشبّث البعض بقواعد العشق لسقطت الإنسانية فى دركات لا قعر لها، فكونوا من المتشبّثين.