"إنك تنتظر أن أكتب إليك لأصف لك حياتي في باريس. وما كان أحب إلىَّ أن أفعل! ولكن حياة باريس لا توصف في الكتب والرسائل، ولا سبيل لك إلى أن تعرفها مقاربة إلا إذا حييتها.
على أني أحب أن أصور لك شعوري في باريس تصويرا مقاربا غير دقيق. ولن يكون هذا التصوير بكلام أكتبه إليك؛ فالكلام كما قلت لا يغنى في باريس شيئا.
ولكن اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة وستضيق بك الحياة، وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق" (طه حسين)
1.. لونا تستحق
"تهادوا تحابوا" (محمد صلى الله عليه وسلم)
أرسل إليك تحياتي "عزيزي القارئ" من قلب مدينة "لونا"، وهي مدينة صغيرة، تبعد ثمانية كيلو مترات عن مدينة فيشتا، وتتبعها إداريا، بها مصانع ومتاجر ومسجد وحيد، يطلق عليها أهلها شعارا جميلا، يقولون: (Lohne lohnt sich) أي (لونا تستحق).
بالأمس وصلت لونا في الخامسة عصرا، استقبلني سباستيان، وهو مهندس شاب يعمل في مجال الميكانيكا، ركبت معه سيارته الحمراء من نوع أوبل (موديل العام)، ثم توجهنا مباشرة إلى البيت الذي سأسكن فيه، البيت مكون من ثلاثة طوابق، أسكن في الطابق الأول فوق الأرضي، مساحته تزيد عن المائة متر، كل غرفاته واسعة ماعدا غرفتي، مساحتها أقل من مساحة الحمام، وأكبر من مساحة المطبخ بقليل، ولكنها تعجبني، فقد جهزها سباستيان وصديقة دانيال بمكتب ودولاب وسرير من طابقين. سعيد لأنني سأسكن مع ألمان، أريد أن أستثمر هذه الفرصة في تحسين لغتي.
هل أنا خائف؟ ربما، أو ربما هي رهبة اللقاء الأول، فقد تحدثنا طويلا عبر الإنترنت قبل أن نلتقي، عرفت أنهما يعملان في مجال الهندسة، سباستيان يعمل مهندس ميكانيكا، ودانيال مهندس كمبيوتر، يدخنان السجائر بشراسة، هكذا أخبراني، ويشربان الخمر في نهاية كل أسبوع، وهذا هو سر تخوفي، لا تقلق عزيزي القارئ فسأحترس قدر الإمكان.
جربت التعارف عبر الإنترنت كثيرا، فنجحت في تكوين صداقات استمرت لأعوام، ودائما ما كانت لحظات اللقاء مثيرة، عندها تتجمد المشاعر، تتوقف، تتقلب، ولكنها تجد طريقا لتتوافق. اللهم إني أسألك توافقا مع من سأسكن معهم، آمين!
عند باب الشقة أعطاني سباستيان مفتاحا وأشار أن أفتح الباب، كان يقف خلف الباب دانيال، سلمت عليه بحرارة ثم عانقته، اندهش للأمر، ولكنه تفهم أنني غريب، وفعلت ذلك عن قصد، أردت أن أظهر ودا زائدا، فالانطباع الأول يدوم. وكان انطباعي عنه أنه بارد المشاعر، متحفظ، تراني هل تسرعت في الحكم عليه، سنرى!
وقفنا لبرهة في ممر ضيق، كل الأبواب على الجانبين مغلقة، والممر مظلم بعض الشئ، هكذا هم الألمان، لا يتركون بابا مفتوحا، ويقتصدون في الإضاءة قدر الإمكان. فتح سباستيان وهو فارع الطول عريض المنكبين بابا قال هذا باب غرفتك، كانت الغرفة ضيقة إلى حد كبير، ولكنها كانت مريحه، ليست الراحة في وسع المكان ولا في ضيقه، الراحة تكمن دوما في الرضا.
أعجبتني الشقة كثيراً، وأكثر ما أعجبني فيها غرفة المعيشة؛ فهي عبارة عن صالة كبيرة منقسمة إلى قسمين، قسم به أنتريه كبير، ضُمت كراسيه إلى بعضها فكونت مصطبة عريضة أشبه بالسرير، أمامه وضعت شاشة تليفزيون كبيرة جدا، قدرتها بـ 60 بوصة، فقد رأيت مثلها في هايبر ماركت وقت أن كتب عليها سعر خرافي، خمسة عشر ألف جنيه مصري، وقت أن كان للجنية المصري قيمة.
وتحتل منضدة طعام كبيرة محاطة بستة كراس مغطاة بالجلد الأبيض القسم الثاني من غرفة المعيشة، وفي زاوية الغرفة منظار كبير مطلي باللون الأزرق، كم أعشق هذا اللون.
هل هذا المنظار حقيقي؟ تساءلت.
مممم، طبعا. أجاب سباستيان.
هل يمكنني رؤية النجوم الآن؟
لا، فالأمر يحتاج إلى رحلة إلى الخلاء بعيدا عن الأضواء.
حسنا فلنرتحل.
.
لم يمض على وصولي الشقة سوى نصف ساعة، أخرجت فيها ملابسي من الحقيبة، وأعطيت سباستيان ودانيال بعض الهدايا التي أحضرتها معي، ودخلت الحمام. كان وقع الهدايا عليهما جيدا للغاية، خاصة وأن ورق البردي برسوماته الفرعونية وأشكاله الجذابة، وقطعة الحلاوة الطحينية الممزوجة بالشيكولاته، وحبات الجوافة ذوات الرائحة النفاذة إضافة إلى البهارات التي طلبوها، كلها أشياء يصعب الحصول عليها هنا، وعلى الرغم من بساطتها إلإ إن الهدايا لا تقدر بسعرها، بل تقدر بمدى الاحتياج إليها، وبكونها تأتي في الوقت المناسب، ودائما ما تترك الهدايا وقعا طيبا لدى الجميع! وكنت أود لو أنام، لكن عرضا مغريا من سباستيان أنساني النوم، وأنساني التعب أيضا، قال:سنذهب للرماية، هل تأتي معنا؟
الرماية؟ أين، ومتى؟
بالقرب من هنا، الآن.
هيا بنا.ركبنا سيارة سباستيان، الجو بارد، والظلام حالك، ولولا معطفه الثقيل لتجمدت. وصلنا سريعا، فقط خمس دقائق، أسرعنا بالدخول إلى مبنى من طابق وحيد، برزت أعلاه لافتة كبيرة مكتوب عليها (مركز الرماية بمدينة لونا)، قاعة المركز أقرب إلى الحانات منها إلى المطاعم أو المقاهي، ففي زاوية القاعة تقف امرأة في عقدها الخامس خلف منضده دائرية تقدم المشروبات الكحولية إلى الزبائن.
اقتربنا من منضدة مستطيلة كان يجلس عليها أربعة شباب، عرفني عليهم سباستيان بقوله: هذا المصري يسكن معنا.
خرج الجميع ليدخنوا سجائرهم، واضطررت لأخرج معهم، ملت على سباستيان أسأله:هل يوجد بالقرب من هنا مطعم، أريد أ آكل شيئا.
تعال!
أطفأ سباستيان سيجارته ثم سحبني من يدي باتجاه السيارة وقال: اركب.
دقيقتان ووصلنا إلى مطعم تركي، كل من فيه يعرف سباستيان أشد المعرفة، يبدو أنه دائم الأكل عندهم، طلب لى سباستيان ساندوتش "دونر" وهذا الدونر يعرفه القاصىي والداني في ألمانيا؛ فهو أقرب إلى الشاورمة وأشهى. وأصر سباستيان على أن يدفع هو الحساب، وشكرته.
(ألم أقل لك عزيزي القارئ بأن للهدايا وقع جميل)
عندما عدنا إلى مركز الرماية، كان الجميع يستعدون للرمي، رأيت أحدهم يفتح صندوقا حديديا صغيرا أخرج منه علب الطلقات يبيعها للآخرين، سألني سباستيان هل تريد أن ترمي؟! أجبت بنعم، واستدركت: ولكني لم أرم من قبل!
لا عليك، سنعلمك الرماية اليوم. عقّب سباستيان وأهداني علبة بها خمسون طلقة.