إذا جاء الإدراك فلن ندرك أنه جاء، فهذا طريق لا نسعى إليه ولا نلوذ به، ولكننا نستريح فى ظل الغيبوبة التى نتنفسها وننحاز لها، وإذا كانت نسبة كبيرة فى المجتمع تتنفس الحياة دون مذاق فإن نسبة كبيرة أيضاً تعيش كأنها فى استرخاء ممتد وكأننا فى رحلة استجمام وما بينهما لحظات انتباه ولكنها لا تمكث طويلاً وكأننا نستبدل نور الوعى والإدراك بظلام الغيبوبة أو اللهو أو اللامبالاة، نحن فى حالة حرب اقتصادية طاغية، ونحن فى حالة حرب مع إرهاب يدرك ماذا يفعل وماذا يريد، وليس أمامنا خيار سوى الانتصار، والانتصار لن يأتى بحالة الهرولة إلى الغيبوبة ويبقى التفوق الوحيد الذى نقدر عليه للأسف هو توطين الأمراض الاجتماعية والإضافة إليها.
وإذا كان من الطبيعى ألا تتوقف الحياة لأن الإرهاب بشتى صوره لا يريد لنا الحياة، ولا تتوقف أيضاً تحت ضغط أزمة اقتصادية، ولكن ليس طبيعياً أن نبالغ أو نجاهر بالترف والظواهر الترفيهية والاحتفالات الصاخبة والتباهى ونشر الصورة التى تعبر عن كل هذا فى وقت تُبذل فيه الدماء الطاهرة ويعقد اليتم قرانه على أبناء وأمهات وزوجات وأسر، من يفعل ذلك هو لا يدرك أنه يشاركنا الحياة فى هذا الوطن، وأن هناك بشراً تدفع حياتها فى بؤر الإرهاب، بينما يجاهر البعض بلا شعور تجاه حرمة الدماء بكل مظاهر الرفاهية فى مجتمع لا يجد أغلبه قوت يومه ويعيش الحياة على الكفاف، ليس مطلوباً لمن كان رزقه فى ثروته ألا ينعم بها، ولكن المباهاة فى ظل ظروف حزينة أو صعبة فهذا عبث مستفز، وقد كان من الأخلاقيات المنقرضة للمجتمع المصرى عدم المجاهرة بأى نوع من أنواع الفرح طالما كان هناك جار لديه ظرف مؤسف، كانت المناسبات تؤجل أو تحدث باستحياء وبلا أى ضجيج وأيضاً لم تكن هناك مظاهر فجة فى التباهى بالثراء، وبالتالى كانت هناك درجة كبيرة من السلام الاجتماعى أصبحت غائبة الآن وإذا كان الاستمتاع بالثروة أو الترف والترفيه أو الممتلكات حقاً طبيعياً إلا أن ممارسته والإعلان عنه بشكل مستفز ليس إنسانياً، وربما يكون التحليل الاجتماعى لمظاهر المبالغة فى نشر ممارسات الترف هو تعبير عكسى عن شعور بالضآلة، فمن لديه أصل عريق أو ثقة اجتماعية لا يتباهى بثروته ولا يأتى بسلوكيات تعلن عن ذلك، والمؤكد أن من يدمن هذه السلوكيات هو محدث يشعر بالضآلة ولا يمتلك رسوخاً فى ثروته أو أصلاً أو مبادئ، وأصحاب هذا الرسوخ ممارستهم راقية لا يشوبها الاستفزاز، والمؤسف أن نسبة كبيرة من الجيل الأصغر سناً من الطبقات محدثة الثروات لديها تسطح كامل وانفصال تام عن واقع هذا المجتمع بل عن هذا المجتمع نفسه، ويمتلكون ثراء آخر يتفوق على ثرائهم المادى وهو الفراغ، ومؤكد أن حالات الاختلال الاجتماعى التى تتفاقم تؤكد أنه عندما يكون المجتمع فى حالة نهضة تكون قدوته المثل العليا، وعندما يكون فى حالة انحدار تتمثل الطبقات الأعلى بالأدنى، فرغم كل مظاهر الثراء، فإن الذوق والأسلوب والألفاظ هى الأقرب إلى التدنى.
نحن لا ندرك أننا فى حروب متعددة ونواصل الصراع على توافه الأمور ويترسخ فينا الهوس والهيستريا والمكايدات الموجودة بين الناس فى الإعلام والسياسة وتفشى فيروس النميمة والشائعات، وهنا تأتى مسئولية الطبقات الأعلى فى العلم والفكر والمستوى الاجتماعى والمستوى المادى، فى الانتباه والإدراك، فإذا جاء الطوفان فلن يبقى على أحد، فالمشكلة ليست الدولة أو الحكومة.
إذا لم ننتبه، وإذا لم نمتلك اليقظة والإدراك وخلق مناخ مختلف تماماً عن المناخ الحالى فالهزيمة لنا جميعاً، وكما قال الراحل الفريق عبدالمنعم رياض قبل حرب أكتوبر «إذا لم ننتصر ستعز الكرامة على كل رجل ويعز الشرف على كل امرأة».