قد يبدو عنوان مقالى الْيَوْمَ غير واضح بسهولة لأن الكلمة يختلف معناها باختلاف تشكيلها ولكننى أؤكد أننى أتحدث معكم الْيَوْمَ عن البوح بمعنى الاعتراف بالشىء وإظهاره وعدم الكتمان.
فقد اعتدنا منذ نعومة أظافرنا، نحن أبناء هذا الجيل (جيل الأمهات والآباء الذى أصبح أغلبهم أجداداً أيضاً)، ألا نبوح بما يدور داخلنا بسهولة كما اعتدنا الحذر والحرص على إخفاء مشاعرنا والتعامل معها كما لو كانت خطيئة ولا بد أن نخفيها وأن تظل فى طى الكتمان.. وعندما يصل الشاب أو الفتاة لمرحلة المراهقة تترسخ هذه الفكرة فى رأسه أكثر وهو ما يجعله يعانى من الكتمان وعدم البوح حتى فى علاقته بوالديه وإخوته، فإنه لا يتخلى عن صمته ويقنع نفسه دائماً بأن الوقت لم يحِن بعد للحديث، وعادة فإن مثل تلك الشخصيات كانت تقنع نفسها بأن البوح لا يكون بالكلمات فقط وإنما بالأفعال. والحقيقة أن وراء ذلك ثقافتنا العربية وعاداتنا وتقاليدنا التى كبرت معنا واعتدنا عليها وتعايشنا معها حتى نفيق مع مرور الأيام لنفاجأ بأننا فقدنا الكثير وأن الزمن سرق منا أجمل المشاعر وأغلق عليها خزانة الأسرار وضاع وقت البوح والاعتراف ورحل الأعزاء والأحبة وأصبحنا لا نملك إلا الندم وألم الفراق وكلمة (لو).
ولكلمة البوح تاريخ قديم بنفس معناها الذى أحدثكم عنه فقد وجدت هذه الكلمة مكتوبة بنفس النطق فى الآثار الفرعونية واستخدمت فى العصر الفرعونى كاسم للإناث بمعنى (تقول السر) وكتبت بالأحرف اللاتينية (Bouh)، وكانت تستخدم بعيداً عن الأسماء فى نفس العصر بمعنى الجرح الصغير للأطفال. وقد اتفقت المعاجم العربية المختلفة على أن البوح كلمة عربية مائة بالمائة. وعندما يتحدث العرب عن الشمس فإنهم يقولون (بوح الشمس) أى ظهورها لوضوحها الشديد.
ويقول علماء النفس إنه يجب علينا أن نتعرف على مشاعرنا وأن نعبر عنها بطرق صحية، وذلك الأمر يمكن اعتباره مهارة من السهل تعلمها بل يجب أن نتعلمها منذ الصغر وندرب عليها أطفالنا. وفى إحدى المدونات التى تكتبها إخصائية أطفال وتشارك فيها الأمهات الصغيرات بالحديث عن مشاكل الأبناء وكيف يتغلبون عليها تقول لهن (اعترفوا بمشاعر الأطفال ولا تصادروها ولا تحبسوا مشاعرهم حتى لا تنقطع لغة الحوار بينكم، وإن كان طفلك رومانسياً يميل لاحتضانك وتقبيلك كنوع من التعبير عن مشاعره فلا تحرميه من ذلك وعوّديه على البوح بما يشعر فهذه أول تدريبات له ليتعلم كيف يعيش حياة صحية).
وفى عالمنا العربى هنالك الكثير من مشاعر الكبت والحزن والفشل فى التعبير عن المشاعر لذلك عادة ما نسمع عن ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة التى تصيب القلب وتؤدى إلى حدوث الأمراض العضوية والتجلطات.
وقد أظهرت دراسة أمريكية، أعدها مجموعة من العلماء فى كلية هارفاد للصحة العامة بالتعاون مع جامعة روشستر، أن الفشل فى التعبير عن المشاعر من الأسباب التى تؤدى إلى الوفاة المبكرة، كما أن قمع المشاعر المختلفة وعدم البوح بها وكبتها فى الصدور من الأسباب التى تقود المرء إلى الأمراض النفسية على الخصوص. وهو ما يؤكده البعض عندما يقولون إنهم يشعرون بالتعب والإرهاق حين يحاولون كبت المشاعر التى تنتابهم بين الحين والآخر سواء كانت مشاعر غضب أو حزن أو حتى مشاعر حب. وأثبتت النتائج أن مخاطر الوفاة المبكرة تتزايد بنسبة ٣٥٪ من بين الأشخاص الذين لا يحاولون التعبير عن مشاعرهم، وأن ٤٧٪ منهم عادة ما يصابون بأمراض القلب و٧٥٪ منهم يصابون بالسرطان نتيجة الضغوط النفسية التى يتعرضون لها.
وكان فريق البحث المشارك فى الدراسة قد قام بفحص ٧٩٦ شخصاً من كلا الجنسين لتحديد مدى الكبت والتحفظ فى المشاعر لدى المشاركين فى الاستبيان وبعد ما يقرب من اثنى عشر عاماً تم تكرار التجربة ذاتها بالأسئلة ذاتها على الأشخاص أنفسهم ليتبين أن ١١١ شخصاً من المشاركين فى الدراسة توفوا نتيجة إصابتهم بأمراض القلب أو السرطان كما تبين أن معدلات الوفاة كانت أعلى عند الأشخاص الذين كانوا حريصين على كتم مشاعرهم وعدم البوح بها، بينما ساهمت المشاعر النفسية الإيجابية فى المساعدة على العلاج والشفاء.
وتبين دراسة أخرى أجريت فى المعهد الاجتماعى (فييسب) فى سان باولو البرازيلية أن ما لا يعيه البعض هو أن المشاعر لا تختفى بل تحبس داخلنا إلى أن نسمح لها بالتحرر والخروج عند التعبير عنها بطريقة ما.
وبعيداً عن الأمراض والتشاؤم نجد أن المؤرخين الفنيين كتبوا عن (تسعين عاماً بين التلميح والتصريح) وهى دراسة عن التصريح بالحب من خلال كلمات الأغانى فقالوا إنه فى الثلاثينات من القرن الماضى كانت أقصى أمانى المحب كما قال عبدالوهاب (امتى الزمان يسمح يا جميل واسهر معاك على شط النيل؟)، وفى الأربعينات كان البوح بالحب ما زال غير متاح فغنت أسمهان (امتى حتعرف امتى إنى باحبك امتى؟)، وفى أواخر الأربعينات كانت أغنية ليلى مراد (مليش أمل فى الدنيا دى غير إنى أشوفك متهنى)، ومع الخمسينات والستينات باتت الحياة أكثر وضوحاً فقال عبدالحليم (بأمر الحب افتح للهوى وسلم.. بأمر الحب افتح قلبك، اتكلم)، ويشدو فريد الأطرش ويبوح (قلبى ومفتاحه دول ملك إيديك)حتى نصل إلى السبعينات وتعترف أم كلثوم (عايشين نقول للدنيا بحالها ولكل قلب بدقته حس)، وفى الثمانينات جاءت المطربة المغربية عزيزة جلال وأعلنت (مستنياك يا روحى بشوق كل العشاق وتعبت من الأشواق)، وبعدها تتحدى سميرة سعيد (مش حاتنازل عنك أبداً مهما يكون).
وهكذا نرى أن للبوح تاريخاً بين المقاومة والاختفاء والإعلان والحريّة؛ فأرجوكم بوحوا بما داخلكم حفظكم الله من أمراض الكتمان ومتعكم بكل المشاعر الجميلة.