ملامح تجديد الخطاب الدينى / الاجتماعى واضحة وضوح الشمس لكل ذى عينين لم تلوثهما فوبيا التديين، ولكل ذى عقل وقلب لم ينل منهما «هسهس» الجنس والحرام والحكم باسم الدين. وهو تجديد تقوم به فئات من المصريين العاديين الذين يتخلصون تدريجياً من رهاب المجاهرة بالأفكار، حيث إن الفكر محرم لدى الحاصلين على «فرانشايز» التفكير. فمسئولو التجديد يقاومونه مقاومة عنيفة، والقائمون على التحديث يكرهون الحداثة كراهية صافية لا مجال لشوائب التجديد فيها.
ومع ملامح التجديد الشعبى تتبدى مجاهرات تبدو فى ظاهرها طبقية عنصرية، لكنها فى حقيقة الحال بديهية واقعية. فالدين لا ينفصل عن المجتمع. ونظرة متعمقة إلى حال المجتمع المصرى كفيلة بإدخال الجميع فى حلقة مفرغة قوامها «الفقراء». والفقر والفقراء لم يعودوا مجرد مقياس على مسطرة البنك الدولى أو لدى بقال التموين. كما إنهم توسعوا وتمددوا ولم تعد المسألة مجرد خط تقبع فوقه وتحته ملايين، بل باتت الحكاية أعمق وأشرس.
شراسة فتح ملف «الفقراء» فى مصر لا تنبع من كونها حجر زاوية سياسياً يلعب به ويتلاعب الجميع. فبحكم العدد، الفقراء هم الأكثر عدداً ومن ثم يشكلون كتلة تصويتية كبيرة يمكن تطويعها لدفع هذا إلى الحكم وطرد ذاك منه. ويا سلام لو أضيفت تحابيش الدين، حيث يتوجه الفقراء لدفع هذا إلى الحكم وقد تم حشو أدمغتهم بأنهم بذلك يضربون عصفورين بحجر؛ فمن جهة هم يتقربون إلى الله عبر اختيار الدكتور فلان زعيم الجماعة العلانية (أو استبنها) التى هى ظل الله على الأرض، ومن جهة أخرى هم ينتفعون سواء مباشرة حيث مميزات مادية أو غير مباشرة عبر خدمات صحية وتعليمية وتوظيفية.. إلخ، ومن مصلحة الجماعات الطامحة إلى الحكم أن تكون قاعدتها الانتخابية أكبر عدداً حتى تضمن سطوتها وتهيمن على الصناديق. ومن ثم، لم يعد المفهوم السائد هو أن «العيال يأتون برزقهم» أو أن «كثرة العيال تعنى رزقاً إضافياً عبر تسريح هذا هنا وإلحاق هذه بخدمة هناك»، بل أصبحت الخلفة المتواترة حلالاً حلالاً وتنظيمها أو تحديدها حراماً حراماً.
حرمانية التفكير فى منطقية الأمور أرض خصبة يرتع عليها أصحاب الـ«فرانشايز» الدينى. وحين تمضى مصر بالعافية وهى تنوء بحمل ثقيل من مواطنين قاربوا على كسر حاجز المائة مليون بينما قيمة العمل شبه ممحية، ومنظومة التعليم شبه مهلهلة، ومفاهيم الصحة شبه خربة، وإطارات الأخلاق والسلوك والآداب تبخرت فى هواء التدين المظهرى المصحوب بالتحريم على هوى أصحاب الـ«فرانشايز» والدق على أوتار الجنس والمرأة والتغاضى تماماً عن شق المعاملة، فهى تمضى إلى التهلكة.
التهلكة ليست مجرد تنامٍ متسارعٍ لـ«الفقراء»، لكنها تغول على الفكر والمنطق، بالإضافة إلى سلاح تكفير التفكير وتفجير من يجرؤ على الاعتراض على فكر الفقراء.
خذ عندك مثلاً: قبل أسابيع كتبت تدوينة عنكبوتية مفادها أننى أعترض على أن تذهب الضرائب التى أدفعها لمساعدة ودعم الأسر الفقيرة التى لديها من الأبناء خمسة وستة وسبعة وثمانية ويزيد. وكذلك أشجب وأندد كل من يستجدى أو يتسول مستخدماً حجة «عندى سبع عيال ومش لاقى.. إلخ». هو اتخذ قرار أن ينجب بلا حدود، ومن حقى أن أتخذ قراراً بعدم دعمه بلا حدود أيضاً. وأفضت واستفضت وكتبت أن ما يجرى حالياً هو أن هؤلاء «الفقراء» أصبحت لديهم اليد العليا فى مصر. كما أصبحوا يتدخلون فى حياة الآخرين فارضين أساليبهم فى العيش والتفكير والأولويات بحكم الكثرة العددية.
وكما هو متوقع هبَّ جانب من الأصدقاء يدافعون عن الفقراء الذين هم ضحايا النظام (أى نظام)، والذين يستحقون الدعم والمساعدة من الجميع إلى آخر القائمة المعروفة. والحقيقة أن ما يجرى من تطبيق حد «ازدراء الفقراء» على المجاهرين بالاعتراض على أنماط تفكير سائدة بينهم أو طرق تخطيط لحياتهم قائمة على تكفير ما لا يندرج تحت بند عقل أو دين أو منطق هو أشبه بـ«لا تقربوا الصلاة..»!
فالفقراء يستحقون الدعم المادى «المشروط» والمعنوى غير المشروط. بمعنى آخر ينبغى أن تكون هناك مرحلة مفصلية انتقالية تحمى الفقراء من مدمنى الإنجاب بحجة حرمانية التحديد أو التنظيم، عبر مساعدتهم مادياً بيد، وتوعيتهم فكرياً باليد الأخرى، مع الاستعداد لتخفيف كلا نوعى الدعم تدريجياً. فلا دعم مادياً باقياً مدى الحياة لأفراد اختاروا أن يلقوا بأنفسهم وبمن حولهم فى التهلكة، ولا دعم معنوياً مفروضاً على الآخرين المعترضين والمتضررين من شيوع العشوائية الفكرية تحت راية الدين تارة وتحت شعار «العدالة الاجتماعية» تارة أخرى.
مثال آخر يتعلق بتفجر ظاهرة المتسولين والمتسولات وظهور بوادر الأسر الممتدة والمنتمية لأجيال مختلفة ممن تفترش الأرصفة وتمارس أرخص أنواع الابتزاز الدرامى، إحدى هذه الأسر افترشت رصيفاً فى منطقة الكوربة فى مصر الجديدة، أب وأم (أو رجل وامرأة) ونحو ستة من الأبناء (أو أطفال). وعلى الرصيف أكواب شاى وبقسماط وآثار علب أكل ولعب أطفال لزوم القعدة ساعة العصارى، استرعى المشهد اهتمام سيدة شابة ومعها صديقتان فقالت «ليه تشتغل لما ممكن تشحت؟!» فى إشارة إلى أن الرجل والمرأة فى ريعان الشباب وتبدو عليهما آثار الصحة الوفيرة ما يؤهلهما للعمل، فما كان من المرأة إلا أن فتحت «مجرور» السباب واصمة السيدة بالكفر والفسق بصوت أجش، وحين تنبهت إلى أنها قد تخسر بذلك تعاطف بقية الكفار والفاسقين من رواد المنطقة، تظاهرت بالبكاء وتحشرج صوتها وطلع رقيقاً هادئاً ناعماً مدغدغاً القلوب «يعنى إحنا علشان فُقَرا وعندنا ست عيال ننداس ولا نموتهم ونغضب ربنا؟!».