مشهد 1:
هاتف من قسم الحوادث: نبأ عاجل باستشهاد 5 شرطيين في البدرشين، وصوت من أقصى صالة التحرير: لا إله إلا الله هو كل جمعة وجع قلب، تتحول الصدمة لخبر والوجع لمتابعة دقيقة وسريعة، وصوت الهواتف يعلوا على صمت الحزن، علينا الخروج بأفضل تغطية للحادث، الكثير من الأخبار العاجلة تنشر سريعا، تفاصيل تكتب وتصاغ بدقة، وعناوين ينظر لها بعناية.
مشهد 2:
صوت آخر من الجانب الأيمن لصالة التحرير: منعوا الصلاة في الأقصى، يبادره آخر: كيف هذا! هذه واقعة لم تحدث منذ 70 عاما، مسؤول: لنتابع هذا الحدث.. أبرز تلك التفصيلة في العنوان، وأصوات جانبية تدعو الله العفو، في الوقت الذي تتجرد فيه من مشاعرها لكتابة الحدث بمهنية.
مشهد 3:
يدخل مدير التحرير الصالة، عاجل مقتل سائحات في الغردقة، فتتحول الصدمات لصمت، يخرج صوت مصدوم، هي السياحة ناقصة، وهو ينظر لشاشته ليدقق المعلومة وآخر يتواصل مع مراسلنا في المحافظة ومحرر ديسك يتفنن في صياغة عنوان للحادث، فينشر سريعا.
مشهد 4:
بعد صمت طويل يتفوه أحد محرري الديسك: راجل حرق بنته، فتجاوب أخرى: لا عندي راجل قتل ابنه بالرصاص قدام أمه، فيباغتهم آخر: حالات انتحار طلبة الثانوية لسه مستمرة، يصمت الحديث ونعود لشاشتنا لنشر بيانات الشجب والإدانة، وقرارات الحكومة، وأخبار الفنانين، ومتابعة الأحداث العالمية.
خفف الوقت من الصدمة أو ربما الاعتياد، تعود الصالة للحديث عن تفاصيل "فيديو الحادث": الناس بتتفرج على الحادثة عادي، يتجاوبون عادي، فيرد: ألا يزال داخلك انبهار، وآخر: شعب مالوش كتالوج، فيباغتهم: موضوع الأقصى دا مش سهل على فكرة، فيأتي الصوت: ربنا يسترها، وآخر: يعني كل القتل دا عادي، فيضحك صحفي اعتدنا صمته: الناس اتجننت والله.
دائما ما يرى الجمهور الصحفي بطل للمثال القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد"، نعم مهمتنا كشف الحقيقة، إعلامكم بالتفاصيل، لكن جميعنا نخرج من "صالة التحرير" لنصطدم بالواقع، أن كل هذا الدم المهدور اليوم أزهق إنسانيتنا، جعل منا آليين يبحثون عن الدقة والسرعة، ننتهي من يوم صحفي مزدحم بالألم لنواجه واقع آخر يبدأ بارتفاع درجات الحرارة وزحام المواصلات وحساب مصروفات الحياة وحل مشاكلنا الشخصية، ومواجهة آلامنا الخاصة وينتهي بنوبات اكتئاب على وسائدنا وتفكير في كل ما مر علينا خلال اليوم.
كتبت صديقتي يوما: لا أعرف ما يفكر فيه أهالي الضحايا وأنا أهاتفهم لأخذ تصريح صحفي، كانت يومها تؤدي عملها الصحفي على أكمل وجه لكن جانب ما في إنسانيتها كان يشعر بالعار، حين يتحول ألم الثكالى إلى تصريح يتألم الصحفي بقدر قارئه لكن الفرق لا مجال للمشاعر هنا، فقط الموضوعية هي المعيار.
من واقع يوم الجمعة 14 يوليو لعام 2017.