لم أجد إلا تعبيراً غريباً يمكن أن يصف حالة قطاع من الشعب المصرى قرر أن يعيش خارج نطاق التحضر والحياة المدنية، وأن يُفلت من قبضة الدولة، ويعادى «السلطة» بكافة أشكالها، فهو لا يعترف بالقانون ولا يعرف الدستور، ولا يعنيه من يمثله فى «مجلس النواب» ولا المجلس نفسه.. إنه «مواطن عشوائى»!
«مواطن عشوائى» اخترع «أسلوب حياة» خاصاً به قائماً على الفوضى و«البلطجة» ومبدأ «البقاء للأقوى».. سماته الشخصية تبدأ بالفهلوة وقبول أى مهمة مشينة، فقد ابتدع «قانونه الخاص» الذى يمنحه الحق فى التمتع بكل الممنوعات، والاتجار فى المحرمات.. وهو لا يشعر بالعار ولا الدونية فى مواجهة مجتمع متحضر، بل على العكس يشعر بالتفوق والانتصار على «شكليات» وقواعد أخلاقية وقانونية تقيّد الآخرين وتمنعهم من السطو على حقوق الغير.
فى أمريكا ستجد تجمعات «الزنوج» هى النموذج الفج لهذا المواطن، قطاع من الشعب يستعمر مناطق معينة من الولاية ويسيطر عليها بقوة السلاح، ويعيش على تجارة المخدرات والسلاح، وتنتشر فى هذه التجمعات كل أشكال الجريمة وكل الأمراض، وأولها «الإيدز» نتيجة إدمان المخدرات، وتلح السينما الأمريكية فى عرض مشاكلهم بهدف احتوائهم وتجنب مخاطرهم، وتتبنى أغانى «الراب» كجزء من حقهم فى التعبير عن أنفسهم.
وفى مصر يكوّن «المواطن العشوائى» أيضاً تجمعات خاصة به، غالباً فى مناطق معزولة بعيداً عن سيطرة الدولة، وهناك -أيضاً- تنشط الجريمة بكل أنواعها وتصبح هى «مصدر الرزق» الوحيد.. الذى يعادل الروح، فيدافع عنه باستماتة، فقدسية المكان هنا مرتبطة بنمط الحياة الذى لا يتوافر فى مساكن حضارية بديلة ولا فى مناطق خاضعة للقانون!
هل ينطبق هذا الوصف على سكان «مستعمرة الوراق»؟.. هل أصبح سكان الوراق خارج السيطرة، يفضلون الحصول على أراضى الدولة بوضع اليد وسرقة التيار الكهربائى وشبكات المياه والصرف فى نهر النيل، والدفاع عن أنفسهم ببنادق الخرطوش بدلاً من أن يقدموا فروض الطاعة للحكومة ويسددوا الضرائب لتدافع عنهم؟!
للأسف من «الدويقة» إلى «الوراق» تكونت تجمعات عشوائية، لها اقتصادها المستقل الذى يعتمد على مصانع «بير السلم»، ويُنتج كل شىء، من «المولوتوف» إلى «الشامبو».. ويمارس كل الأفعال المؤثمة من التحرش الجنسى إلى الإرهاب.. ولهذه التجمعات «بروتوكول خاص» يحدد سياسات الاستيلاء على الأراضى والانتفاع بالغنائم والثروات الناتجة عن «الاقتصاد السرى»، وبالتالى فانتزاع «المواطن» من هذه البيئة يعنى موته!
المواطن الذى يحتل جزيرة، أىاً ما كان موقعها، (الدهب، الوراق، بين البحرين)، استغل حالة «الانفلات الأمنى» التى تزامنت مع ثورة 25 يناير، ومد نفوذه للسيطرة على الأراضى المحيطة به، رغم أن القانون يمنع -مثلاً- دخول كافة مواد البناء إلى جزيرة «الوراق»، إلا أن المبانى تكاثرت بنمط عشوائى ومخالف، واستسهل السكان سرقة المياه والكهرباء من الدولة أيضاً.
لم يسمع سكان جزيرة «الوراق» عن لجنة استرداد أراضى الدولة وتحركاتها، ولا عن الرؤوس الكبيرة التى طالت حملة إزالة التعديات مبانيها، فهذا شأن يخص من يخضع لدولة لا يعترف بها سكان الجزيرة.
لا يعترف السكان بأن الجزيرة «محمية طبيعية»، ولا يقبلون فكرة «التطوير العصرى»، وبالتالى تم الاعتداء على الحملة الأمنية التابعة لوزارتَى الرى والأوقاف، والتى كانت تستهدف إزالة واسترداد بعض أراضى الدولة التى تم الاعتداء عليها، قوبلت بإطلاق أعيرة نارية وخرطوش على الشرطة.. لقد تمكنت الشائعات والنفعية من عقولهم، إنهم يدافعون عن منهج الحياة خارج السياج الأمنى والقانونى.. عن الحق فى البلطجة، وليس عن أرض هم أعلم بأنهم لا يملكونها.
رغم نفى «وزارة الأوقاف»، فمن الثابت أن شيخ المسجد قد حرّض السكان على إثارة الشغب الذى انتهى بمقتل مواطن وإصابة 56 بينهم 31 شرطياً.
ومهما كان حجم الاستغلال السياسى لما حدث، فسلوك أهالى الجزيرة يشهد عليهم، بدءاً من اختطاف جثة قتيلهم والهروب به من مستشفى النيل للتأمين الصحى.. مروراً بقطع الطريق، وصولاً إلى محاولة اقتحام قسم الشرطة!
المعلن، والذى يتم الترويج له، أن سكان الجزيرة يعيشون على الزراعة والصيد كمصدر دخل رئيسى لهم، وأنهم ارتضوا حياة الفقر والبؤس التى يعيشونها بين القمامة وطرنشات الصرف الصحى.. لكن المسكوت عنه أن بينهم «سماسرة تعويضات».
هؤلاء السماسرة احترفوا استغلال الأزمات، ورغبة الدولة فى الارتقاء الحضارى بالمناطق العشوائية، منذ زلزال أكتوبر 1992، واستثمروا حالة «السيولة» التى عانتها الدولة بعد 25 يناير، وتراخى قبضتها فى مواجهة كافة أشكال البلطجة.
أنا لا أقول بأنه لا حق لهم، من لديه مستندات ملكية لأراضى جزيرة الوراق لا بد أن تعوضه الدولة وتوفر له المسكن البديل، كما تفعل مع سكان «مربع ماسبيرو»، ومن استولى على أرض بوضع اليد لا بد من نزع ملكيتها.. أما التراجع فى مواجهة رد الفعل الهمجى فمعناه سقوط «هيبة الدولة» إلى غير رجعة.
الموقف يحتاج إلى تفاوض؟.. ربما، إلى «دبلوماسية» فى إدارة الصراع؟.. ليكن، لكنه قبل كل شىء اختبار لإرادة الدولة، إما تنتصر أو يكون «البقاء للبلطجة»!