قرأت روايات نجيب محفوظ عشرات المرات، لكن يحلو لى من حين إلى آخر أن أعود لقراءة بعضها من جديد. الحديث عن القدرات الإبداعية التى تغرى بمعاودة زيارة روايات نجيب محفوظ أمر مفروغ منه، لكن يبقى أن أى قارئ لنجيب محفوظ يعلم أن الرجل تمكن من تصوير خلطة الحياة الاجتماعية والسياسية والإنسانية المصرية فى رواياته على مدار ما يزيد على 50 عاماً، ووصف محطاتها الأساسية، وكيف يسير قطار الحياة فى مصر منطلقاً من محطة، يمر بعدها بعدة محطات، حتى يصل إلى آخر الخط ليعود من جديد إلى نقطة البداية، وعلى مدار الرحلة تبقى ساعة تمثل الأمل بالنسبة للإنسان لتتغير حياته ويبعث من جديد، إنها الحدوتة المتكررة لحياة المصريين، وقد تجد فيها بوصلة لتحديد مسارات الحال ومآلات المستقبل.
الرواية ببساطة تحكى بشكل مكثف وعميق «حدوتة مصر» من خلال أسرة تتكون من أب وأم وثلاثة أبناء، تتدفق بهم الحياة عبر عدة أجيال، بدءاً من عام 1936 وحتى نهاية عصر الرئيس السادات. الأب «حامد برهان» وفدى حتى النخاع، شارك فى ثورة 1919 ويفخر بأنه لعب دوراً فى تحريض زملائه الموظفين على المشاركة فى الثورة. وقد كانت مشاركة الموظفين فى هذه الثورة بالفعل حدثاً لافتاً، إذ لم يتعود هذا القطاع من المصريين التمرد على السلطة، بحكم ما تقدمه له من أمان عبر المرتب الثابت. رياح كثيرة هبت على الثورة بعد وقوعها، فتكالب عليها الانتهازيون، حتى لم يبقَ منها إلا دستور 1923، لكنه بقى مجموعة من الأوراق المركونة على الرف، بسبب التفاف السلطة الملكية آنذاك على حزب الثورة، وتواطئها مع أحزاب الأقلية، لتجعل من الدستور حبراً على ورق. تجمّد «حامد برهان» الأب عند تلك الساعة التى قامت فيها ثورة 1919، وبقى حديثه كله اجتراراً لما كان، وسلوكه جله موجهاً إلى دعم «الوفد» فى المرات التى كان يشارك فيها فى الانتخابات، والتماس العذر له فى كل خطأ يرتكبه، حتى عندما تبوّأ النحاس باشا الوزارة على أسنة رماح الإنجليز فى حادثة فبراير الشهيرة 1942، دافع عنه بمرارة.
نشأ محمد الابن الأكبر لحامد برهان وفدياً مثل أبيه، لكن بمرور الوقت لفتته يافطة تتصدر واجهة مبنى مكتوب عليها «الإخوان المسلمون»، فوجد نفسه يسير نحوها بشكل تلقائى، وشيئاً فشيئاً انخرط فى الجماعة، وأصبح عضواً فيها، لم يرضَ أبوه الوفدى عن توجهه الجديد، لأنه كان جامداً عند ساعة الثورة، ينظر حوله فلا يبصر غيرها، يتحسس موضع قلبه فلا يسمع إلا دقاتها. انطلق محمد مع «الإخوان» يهتف بالحل الإسلامى، فى حين كان العمر يزحف بأختيه (كوثر ومنيرة) فتزوجت الكبرى من أحد أثرياء العهد الملكى، وتزوجت الصغرى الجميلة بشاب حصل على مؤهل متوسط، ويعمل أخوه ضابطاً بالجيش. وفى صباح 2 يوليو 1952 زفت الإذاعة إلى المصريين خبر حركة الجيش، وإنهاء الحكم الملكى. فرحت الأم والأبناء: محمد وأختاه، إلا الأب فقد شعر بحزن عميق، وتساءل متعجباً: هل بعد ثورة 1919 ثورة؟!