«جرجا».. «ترانزيت» للمستشفيات العامة والجامعية.. والمرضى يموتون فى «نص الطريق»
سيدات ينتظرن دورهن فى جلسات الغسيل الكلوى
مبان متهالكة، وضجيج لا ينقطع بسبب معاملة طاقم التمريض للمرضى وذويهم، وما ينتج عنه من خلافات مستمرة، حالات حرجة يضطرها قسم الاستقبال إلى الذهاب إلى مستشفيى سوهاج العام والجامعى، لنقص الإمكانات الموجودة بمستشفى «النبوى المهندس» الشهير بـ«جرجا العام» الذى يقع فى جنوب محافظة سوهاج، فيضطر المرضى لقطع مسافة طويلة حتى يتمكنوا من الوصول إلى أقرب مبنى طبى مجهز.
يجلس العشرات من الرجال والسيدات أمام قسم «الغسيل الكلوى» محتمين بمظلة كبيرة تقيهم أشعة الشمس الحارقة، ينتظر الجميع الدور المخصص لهم فى جلسة الغسيل الكلوى، تدخل مجموعة من المرضى تلو الأخرى لتلقى العلاج، وينتظرهم مرافقوهم فى الخارج لحين انتهاء الساعات المحددة للجلسة.
زوجة أحد المرضى: «الممرضة قالت لى روح جوزك فى إيدى ممكن أموته بحقنة واحدة»
فى مدخل الطريق المؤدى لقسم الغسيل الكلوى وفى درجة حرارة مرتفعة جلست حِكّم صالح، 60 عاماً، على مقعد خشبى تنتظر دورها فى الدخول للقسم لإجراء جلسة غسيل كلوى، تتنفس «حِكّم» بصعوبة، وتتحدث إلى ممرض يسير مسرعاً فى الممر قائلة: «شوفلى يابنى دورى قرب ولا لسه» ويتركها دون أن يجيب، وكأنها لم توجه حديثها إليه، تؤكد «حِكّم» أنها حضرت فى الصباح، رغم أن ميعاد جلسة الغسيل الساعة 5 مساء، موضحة أنها لن تتمكن من الحضور فى هذا التوقيت بسبب حرارة الجو المرتفعة، وأنها حضرت مبكراً للانتهاء من الجلسة، التى تستمر لساعات.
بينما تجلس سيدة، رفضت الإفصاح عن اسمها، مع زوجها الأربعينى بصحبة طفلهما أمام قسم الغسيل الكلوى، وحينما يأتى دوره وتسمع اسم زوجها «أشرف» تتجه السيدة برفقته إلى الغرفة المجهزة للغسيل، تأتى السيدة الثلاثينية مع زوجها إلى المستشفى 3 أيام فى الأسبوع، وفقاً للجلسات المحددة لزوجها، لديها تاريخ من الأزمات مع القائمين على عملية التمريض بالمستشفى، تقول إن الأزمة بدأت عندما قامت إحدى الممرضات بضرب ابنها الصغير بحجة عدم السماح له بالوجود أثناء جلسة الغسيل، «دماغه كانت هتتخبط فى السراميك، علشان كان عايز يبص على أبوه، ومن ساعتها وهى مستقصدانا عشان أنا زعقتلها بعد ما ضربت ابنى».
«كامل»: «رحت مع ابن عمى المستشفى وبعد التحويل لسوهاج مات فى الطريق»
وعما يُعانيه «أشرف محمد»، 45 عاماً، مع فريق التمريض بالمستشفى، تقول زوجته: «أنا جوزى بيغسل الكلى من 3 سنين، وكل ما نيجى فى الوقت بتاعنا عشان نغسل يقولوا إيه اللى جايبه ومش هنخليه يغسل، ووصلت فى مرة إنهم قالوا إنه مش هيغسل، وكأنهم هما المتحكمين فى مين يغسل ومين لأ، وفى شهر 3 اللى فات رحت اشتكيتهم فى النيابة الإدارية، وبعد الشكوى بشهر معاملتهم رجعت زى الأول تانى، وكان ممكن يركبوله كسبولة مكان مريض تانى، ومعظم الأوقات بيوقفوا الغسيل قبل ما الـ3 ساعات تخلص، عشان يركبوا لحد تانى، وأفضل أزعق، ولو رحت للدكتور وييجى يكلمهم يتعدلوا وبعد كده يرجعوا تانى زى ما كانوا، وفيه مرة واحدة منهم سحبت الخرطوم وسابت الدم ينزف وأنا ساعتها كنت بره»، لا تنسى أبداً ما قالته إحدى الممرضات لتلك السيدة ذات يوم داخل المستشفى، قائلة: «فى مرة قالت لى الممرضة أنا ممكن أديله حقنة على الجهاز أخليه يموت، ومش هياخد فى إيدى دقيقة.. ساعتها حسيت بالعجز ماكنتش عارفة أعمل إيه»، وتوضح السيدة الثلاثينية أنها تسكن فى جرجا وليس لديها بديل لجلسات الغسيل فى مكان آخر.
كامل على، 27 عاماً، يؤكد أن المستشفى لا يقدم أى خدمات طبية، فعلى حد تعبيره: «أى حادثة بتحصل بيحولوا حالاتها إلى مستشفيات سوهاج المدينة، وإن أقصى ما يقدمونه هو خياطة الغرز للجروح»، يتذكر «كامل» جيداً المواقف التى مر بها مع مستشفى «جرجا العام» قائلاً: «كان معايا عيل شغال فى المحل وعمل حادثة، وكان محتاج أشعة يعملها قالوا لى اعلمها خارج المستشفى، وده كان الساعة 3 العصر، وماكانش فيه دكاترة خالص فى المستشفى غير دكتور تحت التدريب، وحتى السلك اللى خيط بيه الجرح اشتريناه من بره لأنه مش موجود فى المستشفى اللى مفيهاش غير بنج وشاش»، أما الموقف الأليم الآخر فكان مع ابن عمه الطفل الذى لا يتعدى عمره 8 سنوات، يقول بصوت حزين: «ابن عمى ده اتخبط بعربية على الشارع ووصلنا بيه المستشفى، وكل اللى عملوه ركبوله محلول وبعد كده حولوه على مستشفى الجامعة فى سوهاج، وقبل ما نوصل بيه نص الطريق كان مات، ولو كان فيه خدمات طبية سريعة كنا لحقناه قبل ما يموت»، يصمت «كامل» برهة، ويتابع متألماً: «حسيت إنى ممكن أجيب السلاح وأرجع أولع فى المستشفى، وليه أسافر بالواد لسوهاج والمستشفى جنبى أُمال هى بتعمل إيه، ووالده من الصدمة قعد فترة مش بيتكلم»، ويؤكد «كامل» أن مستشفى جرجا العام لديه سمعة سيئة بين المواطنين بكثرة حالات الوفيات التى تخرج منه، وبخاصة فى حالات الولادة، ويوضح ذلك بقوله: «أبو بلاش دايماً الناس بتموت فيه، ولو حد معاه فلوس هيلحق نفسه.. لكن أغلب الحالات بتيجى هنا بتموت فى ساعات وربما خلال دقائق معدودة».
وعلى مقعد حديدى فى الطريق الترابى أمام عيادتى الأسنان والصدرية بالجهة الشرقية لمستشفى جرجا، جلس عيد شعبان، 65 عاماً، بجوار حفيده شعبان، البالغ من العمر 9 سنوات ينتظر دوره فى الدخول لعيادة الأسنان لخلع «ضرس» حفيده، ينظر «عيد» إلى جدران المستشفى التى تهالكت متحسراً على ما حدث للمبنى العتيق، يتحدث «عيد» بصوت يملؤه الحسرة قائلاً: «مستشفى جرجا كانت مثال فى النظافة وجمال المبنى والخدمات الطبية وحسن استقبال المرضى، والعلاج اللى الناس كانت تصرفه منها، وماكناش بنشترى أى حاجة من بره المستشفى، ومش عارف إيه اللى حصل ليها»، وأضاف «عيد» أن حال المستشفى يتدهور بشكل مستمر فلم يعد هناك أطباء مهرة ولا ممرضات على خلق مثل السابق، وأن معظم الأطباء يحضرون من الساعة 9 صباحاً ويغادرون الواحدة ظهراً، ولا يتبقى سوى طبيب واحد فى الاستقبال وأحياناً يغادر هو الآخر القسم.
فيما يقف الدور الثالث المخصص لسكن أفراد التمريض شاهداً على كثير من الأزمات التى تواجه القطاع الطبى بالمستشفى، ما بين قطط استقر مقامها تحت الأسرة الطبية المهملة، وحوائط مشوهة، وأجهزة منزلية متهالكة يستخدمها التمريض طيلة فترة وجودهم بوقت الراحة، لتصبح المحصلة مزيداً من الإخفاقات فى القطاع الأكثر أهمية بين مواطنى جنوب سوهاج.