لا يقلقنى «تكفيريون» بدرجاتهم المختلفة، يستهدفون الجيش.. ولا يخيفنى «جهاديون» بأنواعهم المتعددة، يفجرون الطرق.. ولا يرهبنى «إسلاميون» بمسمياتهم المتعددة، يكرهون ويحرضون ويصفقون ويفرحون لقتل أفراد من الجيش. لكن يقلقنى ويخيفنى ويرهبنى جمود وتحجر وبلادة مشاعر شباب وشابات معادين للتكفيريين ومناهضين للجهاديين وكارهين للإسلاميين تجاه ما يتعرض له الجيش من حرب عصابات.
العصابات المتأسلمة بفئاتها المختلفة وجماعاتها المتعددة بدءاً بالإخوان ومروراً بـ«أنصار الشريعة» و«أحرار السليقة» و«أطهار الخليقة» وانتهاء بالدواعش، تقتل أفراد الجيش لأن أدمغتها مسممة ومراكز المنطق ومنابع التفكير فى رؤوسها ميتة إكلينيكياً وقلوبها تنبض لكن دون فائدة. أولئك -بعيداً عن دوافع التمويل وبيع الذمم وشراء الضمائر- تم غسل أدمغتهم غسلاً لا رجعة فيه.. أما هؤلاء الشباب والشابات المنزهة أدمغتهم والبعيدة قلوبهم عن الوقوع فى براثن خبراء تغييب الشباب من باب التديين والتكفير، فيجب أن يكون شغل البلاد وشاغلها.
شواغل الشباب فى مصر هذه الأيام تتراوح بين أزمات كرة القدم وفراغ الصيف القاتل وضبابية المستقبل المقبل، بالإضافة إلى الفئة المقصودة هنا وهى السياسة التى باتت مقتصرة فى أغلب الأحوال على انتقاد الجيش تارة بالتلميح وأخرى بالتجريح وثالثة بالتلقيح. وأدعى أننى قادرة بشكل ما على تفهم العوامل والأبعاد التى تدفع هذه الفئة من الشباب إلى صب غضبهم وتوجيه انتقادهم وتصويب سهامهم الفكرية تجاه الجيش. وبالمناسبة كلمة «تفهم» تعنى فهم ما قد يشعر به الآخر وهو ما لا يستدعى كراهية أو مناطحة أو اتهامات بالعمالة والخيانة والتآمر، بل تستدعى حواراً ونقاشاً.
مناقشة الأسباب التى تجعل شاباً رافضاً لضلوع الجيش فى مشروعات مدنية، أو منتقداً لمنشآت ومبانٍ شاهقة تشيَّد يرى أن العباد لا يحتاجونها، أو معارضاً لتسليح لا يفهم حاجة البلاد له، أو لائماً على أولويات اقتصادية يرى أن الجيش لا يستحقها وغيرها باتت ضرورة، وهى ضرورة لا تستوى مع برامج حوارية و«توك شو» أدمنت وصم أولئك الشباب بالتفاهة والسطحية، أو اتهامهم بالعمالة والخيانة، أو ترهيبهم بمؤامرات كونية وتربيطات أممية وتجييشات خزعبلية لا سند لها إلا تحليلات سياسية وتراكمات من الخبرة والمعرفة يصعب توثيقها بأدلة وبراهين. فهذه الفئة من الشباب الفاهم الواعى الذى يشعر أن العالم وما فيه من معلومات ونظريات ومعرفات متاحة لديه بكبسة زر، لن تلتفت لملوك الشاشات الذين يملأون فراغ الأثير إثارة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية تجذب البعض وتنفر البعض الآخر.
هذا البعض الآخر -ومنه أولئك الشباب- لا تطربه الأغنيات الوطنية التى تتغنى بحب الوطن دون دافع ملموس للحب، وتتمايل دعماً لمؤسساته دون سند عملى لأسباب الدعم، وتتراقص تأييداً لرجاله ونسائه دون أمارة واضحة لأسباب التأييد.
ولشرح دوافع الحب وأسانيد الدعم وأمارات التأييد لا يقنع أولئك الشباب بـ«حديث الثلاثاء» أو «لقاء الأربعاء» أو ورشة عمل تقيمها «جماعة الصحافة» فى المدرسة أو «أسرة الخطابة فى الجامعة» أو «برنامج المصرى يستطيع» فى التليفزيون أو ما شابه. هم ينظرون إلى تلك الوسائل باعتبارها أدوات مكانها المتحف المصرى (أو البريطانى فى حال تمت سرقتها). أولئك يمقتون الوعظ والإرشاد، ويكرهون الإملاء والإجبار، ويسخرون من التخوين والتأويل، ولا يلتفتون أصلاً إلى برامج التثقيف ووثائقيات التوعية والأدلة الإرشادية للمواطن الإيجابى.
ومن إيجابيات التعليم المتهلهل المتحلل غير المقصودة بالطبع أنه أدى إلى تنشيط ميول البحث والتقصى وجهود ملء الفراغ الذهنى والفكرى لدى البعض من الطلاب. فبحث عنه ونقب هناك واطلع هنا وهناك وباتت لديه قدرات تفكير وتحليل تعدت حدود التعليم وقفزت على جسور الإعلام المحلى وفاقت هيمنة المنابر وسطوة المشايخ الساعين إلى إجهاض الفكر وكبح جماحه بهدف إحكام سيطرتهم.
كما أدت سيطرة توجهات سياسية شبه متطابقة وميول فكرية تكاد تكون مستنسخة على الساحة إلى نتائج عكسية. فعلى الرغم من أهمية الاصطفاف الوطنى وضرورة التوحد فى وجه ما تواجهه مصر من مخاطر فى الداخل والخارج، إلا أن هذا لا يعنى الكبس على أنفاس المعارضة. والمعارضة تتمثل فى حزب سياسى له برنامج ورؤية وفكر يختلف عن النظام أو حزب الأغلبية، أو تتمثل فى أشخاص يطرحون رؤى متعددة ويعرضون آراء لا تتطابق بالضرورة مع نظام الحكم. وطالما ليست ممولة من دول أجنبية، أو مؤدلجة بمطامع ومطامح دينية، أو مُمَوِهة لأغراض تدميرية، فهى معارضة مطلوبة وبشدة.
وحيث إن هذه المعارضة لا وجود لها لأسباب عدة، فإن أولئك الشباب لا يجدون منصة للتعبير أو ساحة للمشاركة. وهذا الغياب يغذى ويخدم ويؤجج ما يقال ويثار حول «المعارضة المقموعة» و«الأصوات المسحولة» و«الاختفاءات القسرية» و«القبضات الحديدية» و«حرية الرأى الصريعة» و«حقوق التعبير المغدورة».
الحريات والحقوق التى يسعى إليها الجميع -لا سيما الشباب- ليست عيباً أو حراماً أو تمثل أخطاراً. لكن العيب والحرام والخطر هو اعتبار الانتقادات والاعتراضات التى يوجهها أولئك الشباب والتى يصل بعضها إلى حد التجريح، أمراً لا يستحق التفكير، أو مسألة أتفه من التدبير، أو دور برد وسيذهب إلى حال سبيله.
السبيل للسلامة هو شد خط واضح بين قتلة الجيش من المتأسلمين بدرجاتهم، وبين منتقدى الجيش من الشباب المبعد أو المستبعد أو الذى أبعد نفسه. أجيال الخمسينات والستينات وربما السبعينات وما قبلها ولدت فى أزمنة تاريخية وتعليمية وتكنولوجية مختلفة. وما تحمله هذه الأجيال فى تركيبتها النفسية والفكرية من عشق وحب وإيمان بكل ما يتصل بالجيش لا تحمله بالضرورة الأجيال التالية. الأمر يحتاج حواراً ونقاشاً وتقارباً وليس هبداً ورزعاً وتخويناً ومزيداً من الإقصاء، وذلك لمصلحة الجميع.