على مدى مائة وخمسة وعشرين عاماً ظلت مجلة الهلال فى أغلب فتراتها منارة للمعرفة والعلم والاستنارة فاستحقت عن جدارة الشعار الذى اتخذته هذا العام «بيت الثقافة والتنوير». وفى عددها الأخير [يوليو 2017] كرست أغلب صفحاته لكتابات تنويرية ومعادية للتأسلم. وتألفت الكتابة من ملفين وفى صدر الملف الأول نقرأ مقالاً لطه حسين نجد فيه «لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام»، ثم «وكان الناس يتحدثون فيكثرون الحديث عن المجرمين الذين يستحبون القتل ولا يحسبون عليه بعد اقترافه ندماً ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفاً». وبعد رحلة طويلة تجول فيها طه حسين عن بشاعة التضحية بالنفس البشرية التى تهدر لتحقيق مطامع طرف من الأطراف، يأتى إلى ما كان فى مصر فيقول «ونحن نصبح فى مصر ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر وإذا الواحد منا كان آمناً أمن الغفلة الغافلة.. إنا كنا غافلين، ولكننا نصبح ذات يوم لنجد حياة المصريين وقد أصبحت رخيصة على بعض المصريين باسم الإسلام والإسلام لم يحرم شيئاً كما حرم القتل. فما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى، ما هذا الكيد الذى يكاد، لِمَ كل هذا الشر؟ هل رخصت حياة المصريين على المصريين؟». وعبر مقال طريف لعلى أمين نلتقط عبارة طريفة: «سيغلق أطباء العيون والآذان عياداتهم لأن السعداء فى عهد الإخوان هم الذين لا يبصرون ولا يسمعون». ويمضى على أمين: «كان الاغتيال السياسى عادة حماقة يرتكبها شاب أحمق ولكن حين يصبح هذا الاغتيال سياسة مرسومة لجماعة من الناس يختلف الوضع ويتطلب علاجاً حاسماً، فهذا الإرهاب لم يعد فكرة للخلاص من حاكم، وإنما أصبح وسيلة سياسية للخلاص من كل إنسان يختلف مع الجماعة. فقضية الإرهاب لم تعد قضية الحاكم لقد أصبحت قضيتك أنت وأسرتك وقضية شعب بأكمله». ثم نقرأ بعضاً من مرافعة النيابة فى قضية مقتل النقراشى باشا جاء فيها «إن جماعة الإخوان احتضنت الإرهاب بل كمن الإرهاب فى تكوينها. وإن اغتيال رئيس الوزراء بداية لعهد إرهاب يهدف لإخضاع المصريين وسلب شجاعتهم وإضاعة ثقتهم فى نظمهم وحاكمهم لينزل المصريون عن حقوقهم ويشترون أمنهم بالخضوع للإخوان». ثم يقول: «إذا كان الإخوان قد أحلوا القتل باسم الدين فقد سبقهم الخوارج إلى ذلك».
ويبقى أن أشير إلى أن كل هذه الكتابات المنفعلة قد تدفقت بعد مقتل بضعة أفراد فقط، فتحرك لها كل كبار كتاب مصر، فماذا عنا الآن حيث مئات من رجال الجيش ومئات أخرى من الشرطة ومئات من المواطنين العاديين ولا يتحرك لمحاربة هذا الإجرام إلا القليل المنفعلون والأقل من الدارسين والعارفين للفارق الفادح بين التأسلم وبين صحيح الإسلام. ثم دراسة جادة للأستاذ محمد الحمامصى. ويبدأ دراسته بعبارة قاسية: «بداءة لنكن واضحين أن دعوة تجديد الخطاب الدينى لم تخرج من بيئتها الطبيعية أى أوساط الشيوخ العلماء والفقهاء وهذا طبيعى لأن هذه البيئة كانت قد دخلت إلى مرحلة الضمور والعقم تعليمياً وثقافياً وفكرياً منذ السبعينات. وأخيراً صعدت دعاوى من النخب السياسية والثقافية والفكرية وتوالت الصيحات والندوات خاصة مع تصاعد العوامل والمبررات»، ويقول: «تجديد الخطاب الدينى فى إطار الفراغ السياسى عامة وعند الأجيال الجديدة خاصة فى مواجهة تصاعد حركات المد الأصولى والتطرف والعنف والإرهاب مما لعب دوره فى تشكيل بيئة خصبة للعديد من الدعوات والاتجاهات غير الملائمة، وكلها تحت مظلة الخطاب الدينى المحاط بالتحفظ والحذر من أى كلمة نقدية».
ويكتب يوسف القعيد عن فرج فودة: «كان فرج فودة يتكلم بقوة ووضوح ودقة والخيط الرفيع الذى كان يربط كلامه هو الموقف النقدى الحاد والصارم من طريقة التعامل مع ثوابت الإسلام ولم تكن لديه أى حلول وسط»، ويقول: «أصبحت أقول من كتب لم يمت، لأن الكتابة عمر ثانٍ». و«كان فرج فودة كثيف الحضور غزير الإنتاج، إنه من المصريين الذين يصبح الواحد منهم صاحب قضية فيوقف عليها حياته بل ويدفع حياته ثمناً لها». ويكتب د.خالد منتصر متسائلاً: «هل الرصاص الذى أطلق على شهيد التنوير هو آخر الرصاص؟ هل صمت الكلاشينكوف عن استهداف المثقفين؟ أم أن فكرة فرج فودة تلقى رصاصة الرحمة بسطوة قانون ازدراء الأديان الذى يسجن المفكرين بمسمع من الدولة وتواطؤ المثقفين؟»، ثم يسأل: «لقد اغتلنا المفكر فهل نغتال التفكير؟». ثم تأتى كلمات ابنته «سمر» لتصفعنا جميعاً بإهمالنا لتراثه ولمواصلة مسيرته مطالبة بتسمية الميدان حيث استشهد باسمه وأن يعاد طبع كتبه. مرة ومرة.. ولك كل الحق يا ابنتى. وأخيراً.. المساحة تضيق ولا أجد سوى الاعتذار لمن كتبوا فى العدد ولم أعرض شيئاً مما كتبوا وأنا شخصياً منهم. ويبقى الشكر والفخر حقاً لمجلة الهلال.