فى فبراير (2015)، وعقب المجزرة التى وقعت فى استاد «الدفاع الجوى» وأدت إلى مقتل تسعة عشر مواطناً من جماهير الزمالك قبل انطلاق مباراة الفريق أمام إنبى، نُشر كاريكاتير موحٍ ذو مغزى رسمه الفنان «عمرو سليم» لمشاهد تليفزيونى يتابع المذيعة التى تردد: «هذا وقد نجح المتسابق الفرنسى فى القفز من فوق جبال الهيمالايا بدون باراشوت وعاد لأهله سالماً.. أما المتسابق الإنجليزى فقد قفز فى شلالات نياجرا وتمكن من السباحة.. وعاد لأهله سالماً».. فما كان من المشاهد إلا أن اتصل بها فى مداخلة مردداً: «آلو.. أنا المتسابق المصرى.. رحت ماتش الزمالك وإنبى.. ورجعت بيتنا سليم.. آه والله».
الكاريكاتير يشير بوضوح إلى أن أمن المواطن المصرى -وقتها- يبقى استثناء يستحق الإشادة والإعلان عنه فى زهو وفخر.. وكأن من الطبيعى أن تخرج من بيتك فلا تعود إلا جثة هامدة.. صريعاً فى حادث طريق، محروقاً داخل قطار، أو غريقاً ضحية عبارة معطوبة، أو مخنوقاً وأنت ذاهب إلى الاستاد لمشاهدة المباراة.
المهم أن الحكومة وقتها قررت عملاً بالمثل الشعبى (الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح) إلغاء الدورى.. ثم تراجعت وقررت تأجيله.. وهكذا وجهت رسالة إلى كل أرجاء الأرض أننا شعب همجى فوضوى وعدوانى ولا يمكن ردعه عن التدافع والشغب إلا إذا كانت النتيجة الحتمية ضحايا.. فليتم التأجيل ولتذهب الكرة والباسكت والهاندبول والبنج بونج إلى الجحيم.. وكذلك السياحة والاستثمار والاقتصاد والصناعة والتجارة وكل أنشطة الحياة فى مصر.
هذا عن القرار.. أما بالنسبة للتبرير فكان نفس التبرير الذى يستخدم فى كل أزمة ومع كل الحكومات المختلفة منذ أكثر من ثلاثين عاماً وهو الهروب من المواجهة بالالتفاف حول الموضوع وعدم الخوض فى لب وجوهر القضية بالمناورة.. والالتواء والإزاحة بإلقاء الاتهامات على الغير وعدم الشجاعة فى الكشف عن الأسباب الحقيقية للمثالب والعورات؛ ففى عهد مبارك تحول قطار الصعيد إلى فرن حريق على الأرض يحمل رؤوساً مشتعلة مهرولة منصهرة، ودخاناً أسود يأكل الوجوه ويلتهم الأجساد.. وطوى الموت المئات حرقاً وضن على آخرين، فكتب لهم حياة أسوأ من الممات بعد فقدان الأهل والأحباب.. لكن الفاجعة -كما رأى وقتها أصحاب الياقات المنشّاة من المسئولين- يجب ألا تنسينا الأسباب التى أدت إلى حدوثها.. فصار علينا أن نلقى الاتهامات جزافاً..
إن الركاب لا ريب مسئولون.. وهم فى النهاية ضحايا جرائرهم.. ألم يشعلوا المواقد ليشربوا الشاى الأسود؟!.. ليدفعوا، إذن، ثمن تسيبهم واستهتارهم مثلهم مثل أولئك الذين راحوا ضحية السيول التى جرفتهم لأنهم -كما أعلن مسئول كبير وقتها- قد بنوا بيوتهم فى مجرى السيول.. وقال بالحرف الواحد: «يستاهلوا.. إنهم يستحقون عقاب الأرض قبل عقاب السماء».
وتظل الوجوه اللامعة التى تتدلى منها ترهات الزيف تبرر الجريمة وتبعد عن نفسها الشبهات.. ألم يحشر آباء وأمهات ضحايا الأوتوبيس المتهالك الأبناء بأعداد متزايدة؟!.. ألم يكن عامل المزلقان نائماً؟!.. أى ملاعين أنتم أيها التعساء؟! ألم يثبت أن ضحايا العبارة لا يجيدون السباحة؟!
ولأن القيامة لا تقوم، فإن ضحايا قطار البدرشين فى عهد الإخوان التسعة عشر قتيلاً يعبأون فى جوال يضم أشلاءهم فيزنون عشرين كيلو جراماً من الأجساد والعظام الرخيصة.. فهم عبيد يُحشرون فى مركبات العبيد.. هم ضحايا الحادث.. وهم المسئولون أيضاً عنه.. من خلال رمز يمثلهم.. عامل مزلقان.. عامل بلوك.. عامل صيانة.. سائق.
أما فى فاجعة الاستاد فقد كانت المبررات -فى نفس الإطار السابق- وإن اتصفت أكثر برحابة فى التنوع..
فالإخوان وطبقاً لنظرية المؤامرة قد ارتدوا ملابس الشرطة وقتلوا جمهور الزمالك.. وفى تبرير آخر أن الآباء والأمهات هم السبب لأنهم تركوا أبناءهم بلا رقابة وسمحوا لهم بالذهاب إلى الجحيم..
أما جمهور الألتراس فهم مخترقون من الإخوان ومن فلول الإرهابيين.. وهم عدوانيون بالسليقة.. وفى منتهى العنف والإجرام بالضرورة.. وأما الآلاف من المشجعين فهم عشوائيون من قاع المدينة.. ضائعون من «الصيع» والسوقة والدهماء والرعاع الذين لا هم لهم طيلة الليل والنهار إلا بلبعة الترامادول.. وهل على مُبلبع الترامادول الذى ذهب عقله أن يدرك نتائج أفعاله.. ليس عليه حرج، إذن فقد أثار الشغب ودمر وحرق.. ليس على مبلبع الترامادول حرج..
أما فى الأحداث المؤسفة الأخيرة التى قامت بها بعض جماهير الزمالك فى لقاء أهلى طرابلس الذى أقيم مؤخراً فى استاد الجيش ببرج العرب حيث حطموا المدرجات وأشاعوا الفوضى، فقد تصدرت مانشيتات الصحف عناوين من عينة: المشاغبون يوجهون ضربة قاتلة لمشروع عودة الجماهير لحضور المباريات.. الأزمة تلقى بظلالها الكئيبة على الارتباطات المهمة التى من المفروض أن تخوضها الكرة المصرية فى الفترة المقبلة وأولها البطولة العربية للأندية، بالإضافة إلى مباريات كأس مصر.. والأهلى فى دور الثمانية لبطولة أفريقيا.. والمباراة المهمة للمنتخب الوطنى أمام «أوغندا» فى 7 سبتمبر المقبل.
وقد صرح «مرتضى منصور»، رئيس نادى الزمالك، بأن دخول الأعداد الزائدة من المشجعين إلى الاستاد على عدد التذاكر المطبوعة يؤكد أن هناك من تورط فى مساعدة هؤلاء البلطجية.. وأنه شخصياً لن يرفع الراية البيضاء ولن يتصالح مع جماعة تهدد الدولة.. ويصيح مقرراً: على جثتى عودة الجماهير إلى الملاعب.
المؤسف أن هذا ببساطة معناه خوفنا من قلة منحرفة بعد خوضنا معارك ضروساً لتصفية الداعشيين فى «سيناء». من العار أن يفزعنا حفنة من المجرمين.. ويفرضوا علينا المدرجات الخاوية.