غداة انتخابه رئيساً، ألقى الدكتور محمد مرسى خطاباً فى ميدان التحرير، وهو الخطاب الذى سعى من خلاله إلى تكريس وضعه كـ«رئيس منتخب»، وإلى طمأنة المؤسسات وقطاعات الجمهور باختلاف توجهاتها إلى نواياه ونوايا جماعته.
ولأن الطبع يغلب التطبّع، فقد تورط «مرسى» فى الغمز من قناة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، حين قال، من دون مناسبة: «الستينات.. وما أدراك ما الستينات؟»، فى إشارة واضحة إلى أنها كانت فترة «تراجع وفشل وأهوال»، بحسب ما تعتقد «الجماعة» وما يظهر فى أدبياتها.
يجمع تنظيم «الإخوان» بالرئيس «عبدالناصر» عداء مرير، وقد انخرط الجانبان فى صراع مفتوح، لا يزال يلقى بظلاله الكثيفة على التفاعلات السياسية والمجال العام، وهو أمر يوضح صعوبة إعادة النظر فى تلك العلاقة التى تعمدت بالرصاص والدم ونزاع الإرادات.
لذلك، كان منطقياً أن يجد «مرسى» نشوة فى اعتلاء منصة ميدان التحرير، ليخطب فى الجماهير المحتشدة، وأن يتحدث كزعيم ورئيس، وأن يستحضر صورة «عبدالناصر» وكأنه يستدعيه، ليخبره بأنه وصل إلى الرئاسة، وأن «الجماعة» التى أزاحها زعيم «ثورة يوليو»، وأذاقها الويلات، تعافت، وعادت لتحكم قبضتها وتحكم وتتسيد.
تلك لحظة من لحظات التشفى إذن، لكن الأمور بعدها لم تأخذ المنحى ذاته، إذ فوجئنا جميعاً لاحقاً بأن «مرسى» أعاد الحديث عن الزعيم «عبدالناصر» فى محافل أخرى، لكنه فى أحاديثه اللاحقة لم ينَل من سيرته، ولم يطعن فى مسيرته، بل على العكس أشاد واستحسن ومدح.
لا تسعى تلك المقالة إلى تحليل علاقة «عبدالناصر» بتنظيم «الإخوان»، ولا إلى التذكير بأعاجيب الرئيس «مرسى»، ولا إلى تسليط الضوء على انتهازية «الجماعة» وعدم ثباتها على مواقفها، لكنها تحاول، ببساطة، أن توضح أن الرئيس «عبدالناصر» ما زال قادراً على الدفاع عن نفسه، وأنه يستطيع وهو «رجل ميت» أن يجبر رجالاً «أحياء» على تغيير مسارهم وتعديل مواقفهم.
يبقى جمال عبدالناصر عنواناً لـ«يوليو» التى احتفلنا بذكراها الخامسة والستين أمس، وتبقى «يوليو» صنيعته الأولى، وبابه إلى الخلود، رغم ما جرى عليها من تجنّ، وما اُرتكب باسمها من مخالفات، وما سببته من هزائم وإخفاقات.
لم يكن بوسع «مرسى» أن يخطب فى مؤتمر لدول «عدم الانحياز» من دون أن يرتكز إلى ميراث الزعيم «عبدالناصر»، وأن يشير إلى دوره فى مساندة حركات التحرر الوطنى، ونزعته الاستقلالية، كما لم يكن بوسعه أن يخطب فى عمال إحدى القلاع الصناعية التى أنشئت فى الستينات من دون أن يشير إلى حركة التصنيع التى قادها الزعيم «عبدالناصر»، ومئات المصانع التى بنيت ودارت ماكيناتها فى عهده.
لقد حلت ذكرى «يوليو»، أمس، ولم تكن هناك مظاهر احتفال واضحة، باستثناء التمتع بإجازة من العمل، وعرض بعض الأفلام التى ترتبط بالثورة وتعبر عنها على القنوات الفضائية، ومع ذلك، فإن هناك ضرورة للسؤال عما تبقى من تلك الثورة.
لا يمكن نسيان ما فعلته «يوليو» فى مجالات الإصلاح الزراعى، والاستقلال الوطنى، والعدالة الاجتماعية، والتصنيع، والمكانة الإقليمية، والفنون والآداب، كما لا يمكن إغفال الهزائم والإخفاقات والتجاوزات الكبيرة التى شهدتها مصر فى عهد مفجّرها.
إلى جانب كل معجزة تحققت وإنجاز تجسد، كانت هناك انتكاسة أو تراجع فى مجال ما، خصوصاً إذا ما تحدثنا عن الجوانب الحقوقية والحريات، ومع ذلك فقد ظلت «يوليو» قادرة على الدفاع عن نفسها إلى اللحظة التى غيب الموت فيها زعيمها فى عام 1970.
بدأ «السادات» عصره بالقول إنه «سيسير على خطى عبدالناصر»، لكنه فعل العكس تماماً، حتى خرجت النكتة الشهيرة التى تقول إن «السادات سار فعلاً على خطى عبدالناصر.. لكن بممحاة».
تم الانقضاض على سياسات «ناصر» الاجتماعية، وعوضاً عن سياسة «عدم الانحياز» أو التحالف مع دول المعسكر الشرقى، أعلن «السادات» أن «99% من أوراق اللعب بيد أمريكا»، وصولاً إلى الصلح المنفرد مع إسرائيل، وهو الصلح الذى عزل مصر عن العالم العربى، وحرمها من محيطها، وحرم محيطها من مركزه فى آن.
ليس هذا هو أسوأ ما فعله «السادات» بالطبع، إذ كان فتح الطريق أمام جماعات «الإسلام السياسى» سياسة منهجية تبناها هذا الزعيم اعتقاداً منه بأنها يمكن أن تجنبه التصادم مع أنصار «عبدالناصر» وقوى اليسار الأخرى. وفى هذا السياق، أطلق «السادات» على نفسه لقب «الرئيس المؤمن»، وعلى مصر «دولة العلم والإيمان»، ومرر تعديلاً دستورياً يجعل «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، قبل أن تستفحل الفتنة الطائفية والتمييز فى عهده، ويغتاله الإسلاميون الراديكاليون يوم احتفاله بنصر أكتوبر فى العام 1981.
ما فعله «مبارك»، الذى حكم البلاد ثلاثة عقود، لم يكن سوى سير على ذات الطريق لكن بدأب وإخلاص أكبر. لقد صفّى «مبارك» بإصرار بالغ معظم منجزات «ثورة يوليو»، فقد فكّك البنية الصناعية التى بناها «عبدالناصر» و«خصخصها» فى عمليات مشبوهة ما زالت المحاكم تتداول قضاياها حتى الآن، كما خرب التعليم المجانى بشكل منهجى، وفتح الباب أمام التعليم الخاص للتوسع على حسابه، ورغم أن التراب الوطنى لم ينتهك فى عهده بالاحتلال، فإن القرار الوطنى لم يكن مستقلاً بالشكل الذى كرسته «ثورة يوليو» وأرادته وعملت من أجله.
اتسعت الفجوة بين الطبقات فى عصر «مبارك»، وانسحقت الطبقة الوسطى القوية التى بُنيت بدأب على مدى عقدى الخمسينات والستينات من القرن الفائت، وسادت درجة من الظلامية، وهيمنت أنماط الفن والإعلام الرديئة، وانسحبت مصر من الإقليم والقارة الأفريقية، وباتت مكانتها الدولية فى حال بائسة.
لم تكن مطالب انتفاضة «يناير» بعيدة عن أهداف «يوليو» الرئيسية، خصوصاً فيما يتصل بالكفاية والحرية والعدالة الاجتماعية؛ وهو أمر يشير إلى إخفاق «يوليو» فى تحقيق أهدافها رغم مرور ستة عقود على اندلاعها.
وفى المقابل، حرص «عبدالناصر» على أن يجعل من التعليم وسيلة للصعود الاجتماعى، وعزز فكرة المساواة وعدم التمييز الطبقى أو الدينى أو الفئوى بين المواطنين، وهذه الأمور ما زالت ملهمة للمصريين، وإن كانت تعرضت للتجريف على مدى العقود التى تلت غيابه.
ما زال المصريون حريصين على التوجه العروبى والانتماء الأفريقى والدور الريادى والاستقلال الوطنى، وهم أيضاً تواقون إلى الكرامة، وهى أمور بدت بعيدة خلال العقود الأخيرة، وإن كانت محل توافق بين القطاعات الغالبة من الجمهور، كما ظلت النزعة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية موجودة، والمطالبة بالعودة إلى «التنوير» لا تتوقف.
لقد تحولت «يوليو» إذن من سياسات جسّدتها ثورة على الأرض إلى نزعات ومطالب وقيم، وقد قامت «ثورتان» فى مصر، كما يرى البعض، بعد «يوليو»، لكنّ أياً منهما لم تنجح بعد فى تحويل تلك المطالب إلى سياسات وحقائق.
تبقى «يوليو» ملهمة، وتظل سيرتها براقة، رغم التعثر والإخفاق.