تصعقنا النوازل كبرقٍ أتانا في بحيرةٍ نسبح فيها عراةٌ، كريحٍ عاتيةٍ تقتلع خيمتنا الوحيدة التي أقمناها فوق بحر رمال، كطلقة أصابت رأس طائر قاده حظه العاثر للتحليق فوق ميدان للفرسان، نُبتٙلى فنرفع رؤوسنا إلى السماء سائلين: لماذا أنا يا رب؟.
خلال اليومين الفائتين قرأت خبرًا عن حادثة غرق «تنشع» تفاصيلها بالعجز عن موظفٍ معاق سقط بكرسيه من أعلى جسر حديدي منصوب فوق ترعة فغرق، «سمّرتني» التفاصيل مكاني، لدقائق أتخيّل الحوار الذي دار بين هذا العبد العاجز حتى عن منازلة الموت ولو لإثبات حُب الحياة، للاعتراض على هذا المصير الحتمي ولو بركلة قدم في عمق الماء، وبين ربّه: لماذا أنا يا رب؟.
قصة أخرى لشباب ضاقت بهم مصر وضاقوا بها، نادهم المجهول، فانطلقوا ناحية الغرب المضطرب حيث بلاد «الدم والنار»، ليسيروا في صحراء شاسعة لا دليل فيها ولا أثر، ولا جبل تعلوه جذوة نار تهديهم سبيلًا يقيهم النهاية الصعبة التي انتهوا إليها، ماتوا جوعًا وعطشًا، آهٍ ما أقسى العجز، أوقن تمام اليقين أنَّ جميعهم نظر إلى السماء الحارقة الواسعة وناجى «الهادي البصير»: لماذا أنا يا رب؟.
تقامرنا الحياة في كل ثانية، تغرينا بلحظات الصفاء والحب والضحك، وما أن نأمن لها ندسّ أيدينا بكل ثقة في قلوبنا وعقولنا ونلقي بكل أوراق المحبة والطمأنينة والإخلاص على الطاولة، ونستند إلى كراسينا بهدوء الواثق في الفوز، في انتظار جني المحصول، حتى نستفيق على صفعتها: كش ملك بفقد ثقة وخيانة وغدر وقلق، تفزعنا النهايات غير المتوقعة: لماذا أنا يا رب؟.
يفقد أحدنا حبيب، صديق، عمل، أسرة، هدوء، ثقة، صحة، مال، ولد، فنحسب أنّٙ الله اصطفانا من بين العالمين ليعذبّنا ويبتلينا، نحسب أنّٙ الجميع يمتلك كل جميل إلانا، أنّٙ «المدبِّر» أتى بنا إلى الدنيا عبثًا ليري فينا الناس عجائب قدرته حتى يمصمصوا شفاههم، ويتمتمون بهمسٍ غير مسموع: يا حرام!.
الجميع مُبتلى، الجميع يتألم، الجميع فيه ما يكفيه من الحزن والفقد والغضب والعجز، لا تحسبن الله غافلًا عنك: الله يراك ويراقبك ويحبك ويعلم حالك أكثر مما تعرف أنت عن نفسك فارفع يديك سائلًا: إذا كنت أنا يا رب فلطفك وعطفك وكرمك وقدرتك.
وأخيرًا إذا لم تنته بعد إلى مصير «الموظف العاجز» أو «الشباب التائه» فلا تسأل الله: لماذا أنا يا رب؟.