اكتملت المائدة ما عدا شخص، حضر الجميع إلا هو تأخر كعادته، وأبوا أن يبدأوا دونه، إلا أن "منصف" قد زاد في التأخير، حتى أن البعض بدأ يعتقد أنه لن يأتي أبدا، فسحب أحدهم كرسي وجلس، وسحب بعده احدهم كرسيه، ثم سحب آخرون، حتى جلس الجميع ومدوا أيديهم إلى الطعام استعدادا للأكل، لكن أوقفهم صوت الضيف الأخير.
- اللي ياكل لوحده يزور
- زي ما زور ابن الوزير؟!
تعالى الضحك على تعليق الأخير ردا على "منصف"، فقد إشار إلى حادثة ابن الوزير الذي مات اختناقا من الأكل، وكان معروفا بجثته الضخمة ووزنه الزائد ونهمه للطعام، وغضبه إذا أكل أحدهم من نفس صحنه، أو شاركه الطعام.
- ألا صحيح ابن الوزير غبي، غبي بجد.
تواصلت الضحكات لكنها بدأت تخفت تدريجيا، عندما ارتسمت على وجه "منصف" الجدية، وهو يواصل حديثه ويتمادى في وصف ابن الوزير بالغباء والغشومية وعدم الحذر، وتوقف الضحك تماما عندما قال:
- وقع في خية الموت زي ما البشر كلهم وقعوا قبله فيها!
خية الموت؟! من وصف الموت بالخية من قبل؟ وكيف يكون الموت خية؟
- البشر كلهم وقعوا في خية الموت؟
- اه! مفيش حد كان حذر كفاية.
- حذر إزاي يعني؟
- محدش خد باله، الموت تهرب منه لو هربت من أسبابه.
- والكل بيقع في الخية..
قالها الأخير ساخرا فضجت القاعة مرة أخرى بالضحكات.
- اضحكوا عليا بس أنا اللي هضحك عليكوا لما الكل يموت وأنما اللي تفضى لي.
- إنت شارب صفيحة نبيت يا "منصف"؟!
- لا ده مش كلام سكر ده كلام منطق، البني آدم لو تفادى أسباب الموت مش هيموت.
- ومحدش كان بالذكاء قبلنا إنه يتفاداه؟!
- ومين قال محدش، مين قال إن مفيش بشر من بداية الخلق نجي ولسه عايش؟
لم يكن "منصف" مؤمنا باي دين أو عقيدة، لكنه آمن بشدة بمعتقد الخلود، بأن هناك أمثال لشخصيات ذكرت في الأديان السماوية وغيرها، عاشت بالفعل وستعيش إلى أبد الآبدين، وأن هؤلاء ببساطة تحايلوا على الموت ووجهوا ذكاءهم إلى الهروب منه، وليس بمعجزة إلهية كما آمن أصحاب الكتاب والأديان الأرضية.
لأول مرة منذ بداية الجلسة سرح الحاضرون تفكرا فيما يقول العطار "منصف"، فقد جعل من حديث فقد كل منطق بعض المنطق، ولثوان لم يسمع لأحدهم منطَق!
- إنت قصدك على شجرة الخلود؟
- شجرة الخلود؟!
- الشجرة اللي تفاحها بيمد في العمر ويخلي الواكل منيع ضد الموت، اللي إبليس خلى آدم وحوا ياكلوا منها، إنت مصدق في كلام اللي قالوا إن منها شجرة على الأرض وإبليس لسه بيشوش ناس ويرشدهم لمكانها، ياكلوا منها ويرمحوا بس ما يربحوا آخرتهم، يعيشوا السنين طوال وما يوردوا على جنان؟
- ايه التخاريف دي؟! شجرة إيه وهباب إيه أنا بتكلم كلام علمي، طبعا الشجرة ملهاش وجود، أنا بتكلم على حذر مادي يخليك متلقاش الموت.
- وإنت مش هتلقاه إزاي؟
- مش هاكل أكل بايت، مش همشي في أي طريق فيه مطبات أو حفر، هعمل على بابي 10 أقفال عشان ما يهوبش الحرامي ناحيته، هفرش على البلاط بساط عليه بساط وبساط، وعليهم خداديات قطن عشان لو وقعت تخف الوقعة، مش هاكل غير زفارة البحر ومش هعاشر الناس!
لم يشاهد الناس العطار لسنين إلا في أوقات العمل منذ فتحه الدكان وحتى غلقه، بدأ يصبح أكثر انطوائية، يفحص الزائر إلى دكانه بحذر ويتعامل معه بصلف وعدوانية، يمشي يتلفت يمينا ويسارا وينظر تحته قبل أن يخطو أي خطوة.. ما إن وقع نظر أحدهم عليه حتى اندهش وسبَح، لا يشيخ هذا الرجل أبدا، بشرته لا زالت ملساء كبشرة شاب في العشرين من عمره، وأسنانه بيضاء مرصوصة كما اللؤلؤ، وظهره لم ينحن ولو قليلا، وعيناه ما زالت تلمع وتعكس بريقا غريبا.. غلب "منصف" الموت! هذا الرجل المجنون أثبت نظريته العجيبة، ربما ما كان غريب الأطوار في النهاية، ربما كان الوحيد العاقل.
اشتد هوس "منصف" حتى قرر أن يمنع الشمس من الدخول عبر نوافذه، حيث "أنها تأتي بالبقع والسم الجلدي" الذي أودى بالبعض إلى الموت.
غطى النوافذ وأعلن للشمس أنه لم يعد مرحبا بها في هذا المنزل، وهكذا لم تعتب تلك الحوائط، يوم واثنان وخمسين وستين وثلاثمائة وأربعمائة، حتى تسلل عدو مشترك، جسم صغير عبر فتحة لم ينتبه لها "منصف"، وصار يرمح الجسم هنا وهناك، حتى اصطدم بجسمه فأوقع العنكبوت سمه على قدم "منصف"، لتخرج روحه من جسده الفاني ويجري العنكبوت السام باحث عن أحد اعتقد أو لم يعتقد في الخلود.