جلوس «مريم» الطالبة البسيطة المتفوقة، التى يعمل والدها عملاً بسيطاً شريفاً أمر له دلالته. جميل أن يفعل الرئيس ذلك، وأتصور أن الرسالة الأساسية التى حملها هذا المشهد تعكس إيماناً بأن قيمة الإنسان ووزنه داخل المجتمع الذى يعيش فيه يرتبط بجده واجتهاده، وكده وكفاحه فى الحياة. تلك هى الرسالة التى أفهمها، أن ثمة احتراماً لقيمة الكفاءة والتفوق والتميز، وأن تلك هى القيم التى تستند إليها الدولة فى البناء. رسالة يجب أن تصل إلى المجتمع وكذا إلى مؤسسات الدولة. ليت ذلك يحدث، لأن هذين الطرفين لو تعاملا مع الأمر من نفس المنظور، فإن أموراً عديدة فى حياتنا سوف تختلف.
قيمة التفوق العلمى والتعليمى تراجعت كثيراً فى هذا المجتمع أمام ما حظيت به قيمة المال من تقدم وصدارة لمنظومة القيم العامة. المجتمع يحتكم إلى قاعدة «معاك كام تسوى كام»، وهى قاعدة مقيتة أدت إلى حالة من الاختلال وانعدام الوزن فى شتى مناحى حياتنا. ومن عجب أن تجد أن بعضاً من أصحاب العلم وحملته لا يقيمون له وزناً أمام المال، ولا يؤمنون بأنهم يمتلكون ثروة أغلى وأثمن بكثير من أية ثروة مادية مهما عظمت. على المجتمع أن يحترم قيم العلم والاجتهاد والكفاح من أجل التحقق الإنسانى، وأن يحتكم إليها فى تقييم أفراده، وأولى بأصحاب العلم أن يكونوا الأحرص على ذلك. هل تعلمون السلاح الذى انتصر به المصريون على الصهاينة فى حرب 1973؟ إنه «الإبداع» والقدرة على التفكير العلمى النوعى. الكل يعلم الدور الذى قام به سلاح المهندسين فى تحقيق النصر، وكلنا يتذكر قصة الضابط المهندس المجند الذى اهتدى إلى فكرة استخدام مياه القناة عن طريق مضخات لتحطيم خط بارليف وفتح الثغرات التى نفذ جنودنا عبرها إلى ما وراء الساتر الترابى.
هذا فيما يتصل بالمجتمع، أما فيما يتصل بمؤسسات الدولة فليت المسئولين بها يتأملون ملياً مشهد المتفوقة المريمية، وهى تجلس إلى جوار الرئيس، حيث وضعها تفوقها فى هذا المكان، بغض النظر عن بساطة الأسرة المصرية المكافحة التى تنتمى إليها. ليت المسئولين عن هذه المؤسسات يستوعبون الدرس، ويحتكمون إلى معايير موضوعية مدارها التميز والتفوق والاجتهاد فى اختيار من يعملون فيها، وينسون أفكار التوريث -توريث الوظائف- والوساطة والمحسوبية والوجاهة الاجتماعية، وغير ذلك من أدوات يعرفها القاصى والدانى تمثل مسوغات تعيين واحتلال لوظائف ممتازة على مستوى الوضع والمرتب، يحرم منها من يطلق عليهم «غير اللائقين اجتماعياً»، حتى لو كانوا الأكثر لياقة على مستوى القدرة والمهارة. هذه العبارة السخيفة لا بد أن تختفى من قاموس مؤسسات الدولة المصرية لو كانت تريد أن تطور من نفسها. لعلك تذكر قصة «عبدالحميد شتا»، الذى حرم ذات يوم من التعيين فى وظيفة فى الخارجية، لكونه «غير لائق اجتماعياً»، وهى العبارة التى ساقته إلى الانتحار، وأتصور أنك تتفق معى أن هذه العبارة العبثية كثيراً ما تحدد مصائر بشر لا يعوزهم الاجتهاد أو الكفاءة، وكل ذنبهم فى الحياة أنهم من صلب بسطاء من أبناء البلد الطيب. قليل من التأمل قد يصلح الأداء.