أحدثكم اليوم أصدقائى الأعزاء حديث القلوب، فقد اخترت هذا الاسم لمقالى الأسبوعى وأنا أعلم أن الكثيرين سيتعجبون منه بل وأن البعض لن يستسيغ هذه الكلمة، وقد يجدها آخرون قاسية وستسألون جميعاً عن سبب الاختيار.
بداية لا بد أن أوضح أن الدبشك هو قاعدة البندقية التى تحميها، سواء كانت للصيد أو سلاحاً نارياً يحمله الجنود. وللدبشك معى ذكرى غالية لا أنساها عندما أفزعنى صوت ارتطامه بالأرض والجنود يؤدون التحية العسكرية لوالدى وأنا صغيرة، وقد كنت داخل العربة أمام مقر عمله بصحبة أخى، وعندما خرج من أمام الجنود ليلحق بنا سمعت لأول مرة فى حياتى ذلك الصوت، ويومها عرفت أنه تحية القائد. وظل عالقاً برأسى وقلب الصغيرة التى لا ترى مثلاً لها فى الحياة أغلى من الأب بأنه رمز الاحترام والتقدير والعسكرية. وبطبيعة الحال لم يظل صوت الدبشك الذى شبهته فى طفولتى بصهيل الحصان الذى يتفاخر بفارسه ويعبر عن سعادته عندما يدلله أو يحنو عليه مرتبطاً بأبى رحمه الله، فقد اختلفت المواقف وأضيفت مشاعر جديدة، وبالأمس القريب عندما شاهدت أبطالنا الشباب وهم يتجمعون فى قاعدة محمد نجيب العسكرية ليحتفلوا بانضمامهم لصفوف القوات المسلحة، وسمعت صوت ارتطام الدبشك بالأرض أحسست أن هناك هزة أرضية حدثت فى العالم كله، وسمعت دقات قلبى تتعالى وتدعو لهم بالسلامة وأن يحفظهم الله لمصر ولنا، والحقيقة أن دعائى لهم كان خليطاً من المشاعر، فهو دعاء الأم والزوجة والأخت والابنة، فقد فجرت هذه الصورة البديعة المتناغمة مشاعر نساء الأرض جميعاً داخل قلبى، حقاً كان الصوت أشبه بهزة أرضية، فقد صدر عن ١٥٠٠ دبشك لبنادق يحملها المشاركون فى العرض العسكرى، وكانت خطواتهم تحكى التاريخ المصرى القديم والحديث على أنغام نشيدنا الوطنى المصرى، الذى يسير الأبطال على نغماته وعلى أكتافهم البندقية، ولهذا النشيد تاريخ عريق على مر العصور، حيث اختير لأول مرة وتم عزفه فى عهد الخديو إسماعيل عام ١٨٦٩، وكان مؤلفه الموسيقار الإيطالى فيردى، وفى عام ١٩٢٣ تحول إلى نشيد (اسلمى يا مصر)، الذى كتبه مصطفى صادق الرافعى وظل حتى عام ١٩٣٦، وعند قيام ثورة ١٩٥٢ أُلغى هذا النشيد وبدأ العمل بنشيد (الحرية) من كلمات الشاعر كامل الشناوى وألحان محمد عبدالوهاب، الذى يقول مطلعه (كنت فى صمتك مرغم)، وقد استعمل هذا النشيد كجزء من نشيد الجمهورية العربية المتحدة بعد الوحدة مع سوريا عام ١٩٥٨، وليتغير مرة أخرى عام ١٩٦٠ إلى (والله زمان يا سلاحى)، كلمات صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل، وقد اكتسب هذا النشيد جماهيرية كبيرة والتف الشعب يتغنى به أثناء العدوان الثلاثى على مصر، واستمر حتى عام ١٩٧٩، وفى عام ١٩٨٠ صدر القرار الجمهورى رقم ١٤٣ لتعديله وليصبح نشيد(بلادى بلادى)، الذى ألفه محمد يونس القاضى ولحنه سيد درويش وأعاد توزيع موسيقاه محمد عبدالوهاب، هو النشيد الوطنى وما زال حتى الآن.
وعندما يختلط صوت الدبشك بأصوات الأبطال ويبدأ العرض العسكرى فإن تلك القلوب النقية التى نمت ونضجت على حب الوطن تهتف بشعار الوفاء، ولكل منهم شعار خاص، حيث يهتف رجال الصاعقة (التضحية، الفداء، المجد) ورجال المشاة يهتفون (قوة، عزم، نصر) والدفاع الجوى (الإيمان، العزم، المجد) ورجال القوات الجوية (إلى العلا، فى سبيل المجد) ورجال سلاح الإشارة (الدقة، السرعة، الأمان) أما رجال المظلات (قوة، عزيمة، إيمان) ورجال البحرية (الشرف، العلم، الفداء)، وفى النهاية فإنهم جميعاً يهتفون بشعار القوات المسلحة التى تجمعهم تحت رايتها وهو (النصر أو الشهادة).
وللحياة العسكرية بريق وجمال لا يعرفه إلا رجالها، وأزعم أننى أحسست هذا الجمال والحب العفوى بين أفرادها بحكم النشأة فى عائلة تضم ثلاثة أجيال منهم، فهذا الشاب الذى أقسم بالله العظيم أن يكون جندياً وفياً لمصر محافظاً على أمنها وسلامتها وحامياً ومدافعاً عنها وأن يطيع الأوامر العسكرية وينفذها ويحافظ على سلاحه ولا يتركه حتى يذوق الموت، تعلم مبادئ لا تستطيع أقوى الأمهات أن تغرزها فى الأبناء بهذه السلاسة والقوة والتحدى، وفى بداية تلك الحياة يكون أول الدروس فى حب الغير، ويتعلم الأبطال الصغار كلمة (الدفعة)، وتطلق على جميع من التحقوا معاً فى نفس الوقت بالكلية أو المعهد العسكرى، وتظل الدفعة مترابطة يجمعها الود والحب برغم الافتراق عند دخول الحياة العملية، إلا أن هذا العهد لا يموت أبداً، ومع الدفعة يتعلم الطالب، الذى يطلق عليه (طالب مقاتل) طوال مدة دراسته الطاعة للرؤساء والاحترام والانضباط والاعتماد على النفس والنظام والخطوة المعتادة، يتعلم مبادئ القتال وسرعان ما يتخصص ويبدع ويتفوق ويبتكر ويصبح هو درع الوطن ويغنى لمصر (وطنى حبيبى الوطن الأكبر) و(عظيمة يا مصر يا أرض النعم) و(رسمنا على القلب وجه الوطن) و(الله عليك يا مصر وانت منورة بالنصر)، وينطلق هديرهم ليصل عنان السماء، وقلوب الأمهات تهمس بالسلامة والنصر لخير أجناد الأرض.