نعيش الآن مرحلة أصبح الكلام فيها داءً خبيثاً، المكايدات والمزايدات فى السياسة، المتاجرات والسوءات فى الفتاوى، التخلف والارتباك والعجز فى الفكر الدينى، الهوس والتطرف والاصطناع فى الدفاع عن الحريات، الهذيان والخبل والتسافل على منصات التواصل الاجتماعى، الشائعات كلام، والفتنة كلام، التحريض كلام، والوعود السياسية والاقتصادية كلام، والتليفزيون كلام، والصحافة كلام.
نعيش الآن فى فقاعة ضخمة من الكلام فى مجمله ملوث وإلا لم يكن تلوثه جريمة فهو جهل والاثنان كارثة.
نعيش فى هذه الفقاعة الضخمة التى تضغط على أعصابنا وأيامنا كما لو كان الكلام بحراً من الرمال المتحركة تسحبنا إلى أسفل كلما تقدمنا خطوة نغرق تحت ركامه.
المفزع أنه كلام حول اللاشىء أو توافه الأمور أو كلام فى القشور حتى أصبح الكلام حرفة متاحة ومستباحة ومن السهل الارتزاق منها حتى لعموم الناس، الزن على (الودان) يجعل الأكاذيب حقائق ويجعل الحقائق أكاذيب ولا تغرب شمس الإفك والبهتان وتبقى الحقائق غاربة دوماً، ولو بحثنا عن شخصية أو مفتاح يصف نوع الكلام الذى ندمنه ونمارسه ويمارس علينا يمكن أن نقول إن تصنيفه عبارة عن سلسلة لا تنتهى من النكات لشخصية ثقيلة الظل منبعها الفشل وليس النقد والحقد وليست الرغبة فى الإصلاح، والتفاهة وليست اليقظة والانتباه والتراخص والتملق وليست القناعة، ولذلك أصبحنا جميعاً مثل طلقات فشنك طائشة تحدث صوتاً فى الأماكن تتصادم فى الفراغ ولا تصيب هدفاً، تصم الآذان بقرقعتها وتعمى العيون بدخانها وتميت القلوب من شدة قبحها.
فى عالم يقف على أطراف أصابعه يرى بعضه البعض بأدق التفاصيل نعيش نحن بإرادتنا المريضة فى عالم ضيق بائس عزلنا فيه عقولنا واغتلنا ضمائرنا وحاصر وعينا فحاصرتنا غيبوبة كبرى فأمسينا لا نرى حتى أنفسنا من شدة عمى بصيرتنا، نحن أسرى كلام لا فعل، نحن نتاج جهل يبغض العلم، نحن ننتج فقط أردأ أنواع الكلام بل وليس لنا إنتاج وإنجاز واضح سوى الكلام نبيعه ونشتريه ندمنه ونزدريه.
نصدق وهم الكلام ونعيش وهم الأكاذيب، يتضخم الكلام ويتضخم ويتضخم حتى أصبح كائناً ممسوخاً متوحشاً يأكلنا فى نفس اللحظة التى نتآكل فيها ذاتياً بلا عمل ولا أمل ولا حتى مجرد رغبة فى خطوة واحدة على طريق النجاة.