(١) إذا رضى الله عن جماعة أو فصيل أو حزب، رزقه قيادة واعية، حكيمة، رشيدة، حاسمة، حازمة، ذات أفق واسع، ونظرة بعيدة، ورؤية ثاقبة، وفهم دقيق.. تجيد الإنصات، وتنتقى الكلمات، وتختار الميقات، ذات علم وفقه، وحسن تدبير وتقدير.. وقيادة على هذا النحو تسمو بالجماعة، تسوسها برفق، تهديها إلى طريق الفلاح، تنجو بها من المهالك، تتخطى بها العوائق، وتصل بها إلى بر الأمان.. ومن الثابت تاريخياً وعلمياً أن هناك توافقاً بين نوعية القيادة وطبيعة الأفراد، بمعنى أن الأفراد الصالحين تقودهم قيادة صالحة، والعكس صحيح.. وسواء جاءت هذه القيادة بطريقة ديمقراطية حقيقية أو بأخرى فرضية قسرية، فالمثال صحيح.. ففى الأولى تكون القيادة ترجمة وانعكاساً لقوة الأفراد ووعيهم، وفى الثانية تكون القيادة تجسيداً لضعف الأفراد وغفلتهم.. من هنا كان الاهتمام بالأفراد والشعوب ضرورياً وحتمياً، إذ منها تأتى القيادة.. إننا كثيراً ما كنا نقرأ عن عظمة وعبقرية عمر، وهى حقيقة لا جدال فيها، لكننا ننسى -أو نتناسى- عبقرية الرعية فى زمن عمر.. لذلك، وجدنا الإمام على يجيب عن تساؤل أحدهم: لم كثرت الفتن فى عهدك ولم تكن فى عهد عمر؟ فيقول: لأن عمر كان يحكم من هم مثلى، أما أنا فأحكم من هم مثلك(!).
(٢) لقد عايشنا -عن قرب- قيادات كثيرة فى جماعة الإخوان، ورأينا كيف كانوا يتصرفون فى المواقف المختلفة، وكيف كانوا يفكرون جيداً قبل أن يتحدثوا، وكيف كانوا يضعون فى حسبانهم واعتبارهم وهم يتحدثون إلى الرأى العام، كل ألوان الطيف السياسى، ونظم الحكم فى الداخل والخارج، وأفراد الصف الإخوانى على اختلاف قدراتهم وإمكاناتهم ومستوياتهم.. إذ لكل فئة أو شريحة من هؤلاء أو أولئك فهمها واستقبالها للحديث وردود أفعالها حياله، وأن أى خطأ فى عبارة أو كلمة قد تكون له عواقبه الوخيمة وآثاره الضارة وانعكاساته السلبية على الجماعة ككل.. «إن الضعيف أمير الركب»، كما جاء فى الحديث، وليس معنى هذا أن يصبح الضعيف قائداً للجماعة، ولكن المقصد هو أن على القائد -وهو يتخذ قراره- أن يضع فى اعتباره الحالة التى عليها الجماعة.. إن القيادة الحكيمة لا تنخدع بحماس الجماهير، ولا تنقاد لصيحاتها ولا تتأثر بانفعالاتها.. كما أنها لا تسعى لدغدغة عواطفها أو هدهدة مشاعرها.. لها حساباتها ورؤيتها وتقييمها للأمور، فهى تعرف أين تضع أقدامها، وتعرف كيف تختار الموقف المناسب فى الوقت الملائم، ومتى تتقدم ومتى تتأخر.. كما أنها تعرف قدرات وإمكانات خصومها، ومشروعاتهم ووسائلهم وأدواتهم وأهدافهم.. من ناحية أخرى، عادة ما تريد الجماهير قيادة قادرة على استخلاص حقوقها، لكن دون أن تورطها فى معارك لا تتحملها.. وقد علمتنا الأيام أن الجماهير المتحمسة هى من يفر من الميدان، وأول من يتبرأ من القيادة حال فشلها، بل هى أول من يلقى اللوم عليها.
(٣) لقد أشعل المرشد «عاكف» بتصريحاته المستفزة والمثيرة وغير المسئولة نيراناً كثيرة؛ لعل أشهرها وأكثرها إثارة للجدل تصريح: «طز فى مصر..».. والحقيقة أن هذه التصريحات أوقعتنا فى مآزق صعبة مع الرأى العام، والقوى السياسية، والسلطة، بل مع أعضاء مكتب الإرشاد أنفسهم.. كان الرجل جامحاً، عصبى المزاج، انفعالياً إلى أقصى حد.. وقد عرف عنه الصحفيون ذلك، فكانوا يحصلون من ورائه على تصريحات نارية أو «مشطشطة» -على حد تعبيرهم- غير منضبطة، ولا هى مناسبة لمقتضى الحال.. ولا شك أن ذلك كان يستنزف طاقاتنا وجهدنا ووقتنا فى التوضيح والتبرير والتأويل.. وقد كانت تأتينا شكاوى كثيرة، من الإخوان ومن غيرهم، بضرورة تعيين متحدث رسمى باسم الجماعة يرفع عنها الحرج، ويقيها تلك المزالق، لكن هذا الأمر كان يثير ثائرة الرجل.. وأذكر جيداً أن زار المرشد مكتب إدارى محافظة الغربية، ولكيلا يتحدث القوم بكلام قد يفهمه المرشد على أن فيه إساءة له، فقد كتبوا فى ورقة ما يريدون قوله.. تسلم المرشد الورقة ومضى يقرأ ما بها.. فى البداية، بدت عليه علامات السعادة والرضا، فقد كان الجزء الأول يتضمن تقريظاً ومديحاً لمكانته ومنزلته -كمرشد- فى قلوب الإخوان.. حتى إذا ما وصل إلى الجزء المتعلق بطلبهم وهو أن يكون هناك متحدث رسمى باسم الجماعة، انقبضت أساريره واشتد غضبه وقذف بالورقة فى وجوه القوم وهو يرغى ويزبد(!!)
(٤) هذا التصريح وأمثاله يدل على فكر مغلوط ومعنى سقيم للوطن والوطنية.. مفهوم الوطن يبدأ من القرية والمدينة -مروراً بوطن الدولة- وينتهى بالوطن القومى الأكبر، العربى والإسلامى.. أما مقوماته فتتلخص فى عنصرين: الأرض والإنسان.. والأرض هى الأساس المادى لحياة الإنسان ومسرح حركته ونشاطه، صعوده وهبوطه، وبدايته ومنتهاه.. والإنسان هو العنصر الثانى الذى يتفاعل مع الأرض، تعميراً أو تدميراً، بناء أو هدماً، إصلاحاً أو إفساداً، وهكذا.. أما المواطنة فهى عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة، وليست بالضرورة منتمية إلى ذاكرة تاريخية موحدة أو دين واحد.. هذه المجموعة البشرية ينظمها دستور وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها.. إنها شبه جمعية تعاونية ينتمى لها أفرادها -طواعية واختياراً- بشكل تعاقدى، فالذى ينضم إليها اليوم، له نفس حقوق من انضم إليها منذ عقود.. وقيم هذه المجموعة فى المفهوم الحديث هى عكس المفهوم التاريخى الذى يقوم على أساس العرق أو الدين أو التاريخ المشترك.. فالتنوع نفسه يصبح قيمة كبرى إذا تحقق الانسجام عن طريق التفاعل بين مختلف الخصوصيات؛ وذلك: ١) بتفعيل المشترك الإنسانى، ٢) تحييد عنصر الإقصاء والطرد، و٣) استبعاد عناصر نقاء النسب الذى يؤدى إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كما كان عند الرومان أو العرب فى عصر الجاهلية.. المواطنة إذن رابطة اختيارية معقودة فى أفق وطنى يحكمه الدستور، أو ما سماه الفيلسوف الألمانى «هابر ماس» بالوطنية الدستورية، أى شعور الفرد بانتمائه إلى جماعة مدنية مؤسسة على المشاركة فى القيم الأساسية.. والحقيقة أن المواطنة تتسامى على الفئوية، لكنها لا تلغيها، والمطلوب أن تتواءم وتتعايش معها.. ولعل ذلك أهم تحول فى مفهوم المواطنة فى العصر الحديث، ولعله أهم جسر لتكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة، وأن هذا يلتقى مع المفهوم الإسلامى للتعايش البشرى، بحيث لا يجد المسلم حرجاً، بل قد يكون متعاوناً معها (راجع ما كتبه العلامة بن بية فى كتابه: صناعة الفتوى وفقه الأقليات).