في الجامعة عرفتنا السيدة "بورن" على تفاصيل منحة "إيراسموس"، وهي المؤسسة التي تمول إقامتنا هنا، قالت بأننا جئنا من تسع دول، وأن عددنا الإجمالي هو تسع وتسعون باحثا، منهم ثمانية وأربعون باحثا جديدا والآخرون مستمرون من العام الماضي، وذكرت أن الباحثين الجدد قدموا من كل من: مصر، وأكرانيا، وكوسوفو، وتركيا، وروسيا، وكوريا الجنوبية، والإكوادور، وليتوانيا، وكولومبيا، والبرازيل.
أما عن الهدف من المنحة فقالت بأن الغاية منها هو تبادل إرسال طلبة الماجستير والدكتوراة إلى الجامعات الأوروبية. وأعتقد أن تسمية المنحة بهذا الإسم- وهو الشئ الذي ربما نسيت السيدة "بورن" أن تذكره لنا- يعود إلى الفيلسوف الهولندي دسيدريوس إيراسموس (ت 1536م)، أحد رواد الحركة الإنسانية الأوروبية، كانت لديه ملكة الاتصال بطلابه اتصالا مباشرا، إما باللقاءات وإما بالمراسلات أو بكليهما، وقد تناول ذلك الفيلسوف هذا الأمر في معظم مؤلفاته، حيث ركز على مظاهر التربية وبحث في قضاياها الهامة مثل المحتوى وآداب الطفولة وتعليم اللغة وغيرها، وتنسب إليه مجموعة من الأقوال والحكم يعجبني منها:
"لا يوجد من هو حكيم طوال الوقت، فلكل إنسان جانب أعمى"، و "في بلد العميان يصبح ذو العين الواحدة ملكا".
صدقت أيها الفيلسوف، وكما تعرف عزيزي الفيلسوف إيراسموس فإن هناك مثلا مصريا يقول: "الغريب أعمى ولو كان بصيرا"، وهكذا الحال بالنسبة لي الآن، فبعد أن انتهت محاضرات الترحيب قررت العودة إلى لونا، مدينتي الصغيرة، وقادتني بصيرتي العمياء إلى الطريق، وزينته لي أن أقطعه سيرا على الأقدام، وأقنعتني بحجج منها: أن المسافة ليست طويلة، فقط ثمانية كيلوا مترات، وقد قطعتها السيارة صباح اليوم في عشر دقائق فقط، وإنني يمكنني رؤية أشياء جديدة عن قرب؛ فالمثل المصري يقول: " إللي يعيش ياما يشوف واللي يمشي يشوف أكتر". وقررت المشي!
مرّ الكيلو متر الأول مرور الكرام، فلم أشعر فيه بتعب، كنت أتأمل البيوت وحدائقها، والشارع وانضباطه، والناس وحركاتهم. كنت كمن يسير في الجنة، كل شئ في انضباط تام، تساءلت: ترى لو دخل الألمان الجنة فهل ستعجبهم؟! أم أنهم لن يشعروا فيها بفرق كبير؟! بالنسبة لي فإن ألمانيا جنة، وسأكون محظوظا لو دخلت الجنة مرتين!
جاء الكيلو متر الثاني وقد أضحت البيوت من خلفي بعيدة، وخلى الطريق من المارة، ولم أعد أرى سوى أشجارٍ على الجانبين وسيارات تمر مسرعة عن يساري، وبدأت أشعر بألم في ساقي، أحب المشي كثيرا، ولكن لكل حب حدود، حاولت صرف فكري إلى شئ آخر، الأشجار مثلا، صرت أتأملها، شاهقة الارتفاع، من نوع الصنوبر، أجود أنواع الخشب، محظوظة ألمانيا بهذه الأشجار، قرأت ذات مرة أن الألمان يقومون كل عام بإحصاء عدد أشجارهم، ويطلقون على هذه العملية اسم "جرد الأشجار الاتحادي"، وفي عام 2014 تم الإعلان عن حصيلة الإحصائيات النهائية، وقد جاءت تلك الإحصائيات إيجابية للغاية، فرحت بها الحكومة الألمانية أشد الفرح، حيث وجدت أن عدد الأشجار في البلاد قد تجاوز المليار شجرة، وهو الأمر الذي يؤهلها لتكون أغنى بلدان الاتحاد الأوروبي أشجارا!
وقد يسأل سائل – وهو السؤال الذي سألته لنفسي وقت أن قرأت تلك المعلومة- كيف قام الألمان بعدّ أشجارهم؟! والجواب سهل بسيط، إنهم الألمان، لديهم أجهزة ملاحة متطورة للغاية GPS، وأجهزة كمبيوتر عليها برامج يمكنها قياس المسافات العاملة بالأشعة والليزر، وقد قاموا بتقسيم ألمانيا إلى مربعات، طول ضلع الواحد منها أربعة كيلومترات، في كل من هذه المربعات، والتي تقدر بستين ألف مربع، قاموا بتسجيل كافة الأشجار المتواجدة فيها، فكانت النتيجة أكثر من مليار شجرة!