الست العريانة ليست الوجه الآخر للنقاب، والانحلال والانفلات ليسا البديلين الوحيدين المتاحين لتصعيب الأمور على العباد وتحريم الحلال ومنع المباح خوفاً عليهم من الشهوات والموبقات، والمطالبة بحق الفرد فى سماع ما يود الاستماع له وقتما شاء دون إلحاق الضرر بالآخرين ليست حرباً موجهة ضد الإسلام ومحاولة لإجهاض صوت الأذان، وتنقية أدمغة المواطنين مما علق بها من شوائب «قناة تأخذك إلى الجنة» و«نصرانى مآله جهنم» و«علاج الكبد الوبائى بتعويذة قرآنية للشيخة خديجة المغربية وقرينها الشياخ الكتاتنى» لا تجرى بالضرورة عبر زرع كشك فتوى على رصيف محطة أو بث دروس دينية بالإكراه عبر مكبرات الصوت، الأصوات التى ضجت بها شبكات التواصل الاجتماعى من قبل البعض من المصريين الذين ضربت أكشاك الفتوى، فى دولة مدنية ذات هوية مصرية واحترام حقوق غير المسلمين بنفس طريقة احترام حقوق المسلمين، أحلامهم فى مقتل فرحوا وهيصوا وزقططوا بالإعلان عن زوال كشك الفتوى فى محطة «الشهداء» عقب عيد الأضحى والإدلاء بالفتوى الأخيرة حول العيد والحج والذبح.. إلخ.
البعض تصور أن «تراجع» المترو عن كشك الفتوى هو نصر مبين للدولة المدنية، آخرون اعتقدوا أن إزالة الكشك من شأنها أن تعيد وجه مصر الجميل وبهاءها الفريد، الذى نبكى على أطلاله كلما شاهدناً فيلماً مصرياً قديماً، فريق ثالث رأى أن التراجع عن مسألة الفتاوى التى اقتحمت كل كبيرة وصغيرة فى حياة المصريين المسلمين، بدءاً بدخول الحمام مروراً بركوب المصعد وانتهاء بنشر الإسلام عبر ملصقات تشوه الجدران وتعتدى على الملكيات العامة والخاصة، وهلم جرا، خطوة صحيحة.
لكن الحقيقة أن إزالة الكشك لن تصلح ما تهدم، أو تعيد ما سُلب، أو تعدل ما انقلب، ويكفى مثلاً أن استطلاع رأى للقراء أجراه موقع خبرى أشار إلى أن أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم يحبذون استمرار الكشك، فى حين عارضه نحو ثلث العينة، وقالت البقية إنها غير مهتمة، الاهتمام بالكشك وفكرته والدفاع عنه ومتابعة ردود فعل المؤيدين لتلقى الفتاوى أثناء استخدام المترو تؤكد أن آثار «المفك الذى انضرب» فى المصريين عميقة وعاتية، يعترض أحدهم على الكشك قائلاً إن «الفتوى ماحبكتش فى المترو» فيرد عليه آخر «مش أحسن ما يسمع الركاب أغنيات هابطة وكلمات تحض على الخطيئة»، ينتقد آخر زوايا المترو المنتشرة فى الغالبية المطلقة من المحطات والشباشب الملقاة على عتبتها والموظفين المشمرين بنطلوناتهم لأداء صلاة الجماعة جنباً إلى جنب مع موظفى الأمن والنظافة وبعض الركاب فى وقت يفترض فيه الحيطة والحذر تحسباً لعمليات إرهابية، فيأتى الرد الدفاعى الهجومى غير المرتد: «طبعاً الصلاة تؤرق العلمانيين وتزعج أعداء الدين لكن لو كانوا يرقصون أو يتحرشون لنالوا الإعجاب والإطراء»، متلازمة التزمت أو العرى، الإفراط أو الفجور، طلب الفتوى قبل دخول الحمام وبعده أو المشى على حل الشعر، فرض مظاهر الدين فرضاً على الجميع، أو المطالبة بالانحلال والفجور باتت مزمنة وتعانى منها نسبة كبيرة جداً من المصريين، هى المتلازمة التى عبرت عنها برشاقة وخفة دم مقولة (لا أعرف من صاحب ابتكارها) «الشنطة فيها كتاب دين»، وهى تشير إلى أولى مراحل التدين المظهرى الشكلى الذى نما وتطور إلى أن تحول إلى «هسهس» ملازم لكثيرين، وهى أيضاً تعبر عما حدث من تفريغ للدين من محتواه الأخلاقى والمعاملاتى لحساب تقديس المظهر والانتفاض من أجل الشكليات، التى باتت تغنى عن الجوهر، جوهر المسألة هو كيفية حلحلة هذا الارتباط المرضى، وإقناع المصريين بأن الدين لله والوطن للجميع، وأن الإسلام لن ينتشر بكشك فتوى أو رنة دعاء على المحمول، أو تحويل العباءات السوداء إلى زى رسمى للنساء، أو اعتبار كل من لا يمتثل لمعايير التدين المفروض من قبل مشايخ الزوايا خارجاً عن الملة، أو النظر إلى من ينتقد ضعفاً أو كسلاً أو حرجاً من قبل المؤسسات الدينية الرسمية باعتباره قليل الأدب عديم التربية هادفاً إلى هدم المؤسسة وتفتيت الكيان والنيل من مكانة الدين.
مكانة الدين لن ترتفع بـ15 أذاناً يؤذن جميعها بأصوات مختلفة والفارق بين كل منها والآخر بضع ثوان من هواتف محمولة للركاب فى باص عام، ثم تعقبها أدعية دينية يسمعها الجميع شاء أو أبى، مكانة الدين لن ترتقى بمقهى شهير فى «مدينة عالمية على أرض مصرية» يقرر العاملون فيه إيقاف الموسيقى فى وقت الصلاة (وليس أثناء الأذان فقط)، حيث تقام صلاة الجماعة فى المطبخ بصوت مرتفع، مكانة الدين لن تتحسن بكشك فتوى يقام على رصيف المترو وكأن البلد يعانى شحاً فى الفتاوى، بينما الحقيقة نعانى شحاً شديداً جداً فى الأخلاق والنظام والسلوكيات والمعاملات (التى هى بالمناسبة جزء أصيل من الدين)، الدين لم يكن يوماً مصدراً للإزعاج، أو مجالاً لفرض الهيمنة واستعراض العضلات، أو ساحة لتكفير الآخرين وإجبارهم على الإذعان للأغلبية العددية، والتأكيد على التدين وتثبيته لا يأتى باحتلال أرصفة ومحطات يملكها وتمول صيانتها أموال المواطنين الذين هم مسلمون (وليس جميعهم من هواة الصلاة فى زوايا المترو أو محبذى إقامة الشعائر فى مسجد مبنى على رصيف مخصص للمارة)، ومسيحيون لا يجرؤون على الجهر بصلاتهم، فما بالك بالمطالبة بتخصيص مكان للاعتراف فى محطة «جمال عبدالناصر» أو للمناولة فى محطة «كلية البنات»، ما زلت أرى أن ما أصابنا هو هسهس تقوى كامل متكامل، وعلاج الهسهس يحتاج الاعتراف بالعرض وعلاجه على أيدى كونسلتو من مختلف التخصصات، وليس بكشك على الرصيف.