ذات يوم وقع بصرى على بيت شعر يقول: «لا تكثروا ذكر الزمان الذى مضى فذاك عصر قضى وذا عصر».
لم يعجبنى الشعر ولا الشاعر، فأنا الذى تكلمت كثيراً عن التاريخ باعتباره أداة لفهم الحاضر وصناعة المستقبل، رفضت من حيث المبدأ هذه الفكرة. فإذا بى الآن أعود لأفتش عن هذا البيت من الشعر حتى وجدته ومضيت لأتأمله وأتأمل الكامن فيه رغم أنه كُتب فى زمان غير زماننا ولكنه يعالج الجرح ذاته الذى يحذر من أن يرتد الإنسان إلى الماضى متخيلاً أنه يحمل له تحقيق أجمل أحلامه.
والإغريقيون القدامى فعلوها فتخيلوا أن الماضى السحيق كان العصر الذهبى للإنسان وقادهم هذا الوهم إلى بناء أساطير وهمية وآلهة جسدت لهم صراعات حول هذا الوهم. والآن فى زماننا أصبحت العلاقة بين الماضى والحاضر ملتبسة ومثيرة لهواجس عدة فإذا كان تعريف علم التاريخ الذى ارتبط منذ عهد الإغريق بلفظ Istoria بأنه «علم البحث عن الوقائع الجديرة بالمعرفة التى وقعت فى الماضى»، ومن ثم فقد عشنا فى رحاب التاريخ ونحن نستخدم هذه الوقائع الجديرة بالمعرفة التى وقعت فى الماضى كأداة توضح كيف يمكن تفهم ما كان من أجل أن نتجنب العثرات ونستحث الخطى للتطلع نحو المستقبل المشرق من أجل أن نجعله أكثر إشراقاً، ثم إذا بنا نجد أن السحر قد انقلب على الساحر، فالحاضر مغلقة أبوابه ونوافذه، حيث تتدهور منظومة المفاهيم التى تحكمه وحيث لا يجد الشاب المتوسط، وطبعاً الفقير، أى أمل جاد فى المستقبل، فما تعلمه فى المدرسة أو حتى الجامعة لا يؤهله لشىء. الوظائف ذات الراتب المغرى يحتلها خريجو الجامعة الأمريكية، الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية... امتداداً حتى الصينية والروسية، هكذا وبهذا الترتيب تقريباً، أما هو فليس أمامه إلا أن ينتمى إلى طائفة المتعطلين أو يحمل الليسانس أو حتى البكالوريوس ليطوف به باحثاً عن عمل مثل سكيوريتى. أو طيار بموتوسيكل يلبى طلبات الزبائن. هذا الفتى ماذا تنتظرون منه؟ وماذا تتخيلون موقفه إذا استدعاه واحد من المتأسلمين إلى ساحة رفض الحاضر واستعادة الماضى الذى يمتلئ بأحلام متأسلمة تأتى عبر رؤى متأسلمة. والمتأسلمون يستعيدون معه «التاريخ» الممتد رجوعاً حتى العصر الذهبى الذى ساد فيه التأسلم وسادت فيه أوهامه بإنفاذ الشريعة وفق مفاهيم التأسلم وآلياته. هذا الشاب يجد نفسه بين فكى كسارة البندق. حاضر مرير وبلا مستقبل وهو حاضر يراه ظالماً ومظلماً وظلامياً، وماضٍ رحب يفتح أمامه الجنة والحور العين.. والاختيار ليس صعباً ولا هو يحتاج إلى مهارات أو حتى معارف أو معلومات فالأسطوانة المتأسلمة التى سمعها غيره فاقتادتهم إلى حزام ناسف أو قنبلة أو سكين لا تحتاج إلا إلى جسارة التحقق وسرعة الاختيار. وهذا الشاب الذى يحمل عبء آثام الحاضر على كاهله يرى فى الغرب (النصرانى) آلة استبدادية طاغية وتستخدم المسلمين والمتأسلمين معاً فى صراعات دموية بينما الغرب يتلاعب بخيوط مسرح العرائس الذى يحركه ما يقال إنه «المجلس الخفى لإدارة العالم» وأن الدماء المتأسلمة تهدر بآليات الكفر وأن الكفار يتخذون من جريان هذه الدماء سبيلاً لجريان غاز وبترول ثمناً للأسلحة. ويلقنه المتأسلمون أن الزمن الماضى شهد القوة والمنعة والغزوات التى رفعت رايات الإسلام خفاقة فى ربى العالم القديم، وأن النهوض الإسلامى فى الزمن الحالى تقيده خطى المستحيل والتأسلم واللاعقل واللاعدل والفشل المتولد عن ذلك كله. فلماذا لا يعود هو سعياً وراء الماضى.. وهنا يصبح التاريخ عبئاً وهاجساً فإذا كان الحاضر المغلق والمستقبل المستحيل مطاردين فلماذا لا يكون التاريخ سبيلاً للأمل؟
ونحن، وأقصد بـ«نحن» جموع المثقفين وشيوخ الأزهر وقساوسة الكنيسة والسادة الحكام بتلويناتهم ومواقفهم، لم نزل عاجزين عجزاً مشيناً فى محاولة استخلاص الحاضر من قوى التأسلم ومن ثم محاولة استخلاص التاريخ من براثنهم، وقوى التأسلم تراوغ الدولة والحكم والحكام وتبدى أنها تقبل الحاضر لكنها تختطف التاريخ (أى الماضى)، وتقول لأتباعها إن الماضى الذى فقدناه علينا أن نستعيده على الأقل بمزيد من التعبد أو التظاهر بالتعبد الذى يتجلى فى مخاصمة الحاضر (رمز الضعف والخنوع والبعد عن الدين) عبر زى خاص، وزبيبة لا مثيل لها فى أى بلد إسلامى آخر، وتقوى مفتعلة، ثم يسألون الفتى الفريسة المسكين «لماذا تقبل على نفسك وعلى دينك المهانة؟.. انهض». و«انهض» هنا تعنى بالتحديد «اختطف التاريخ وامنح نفسك الخلاص بقتل الكفار».
والشىء الخطير أن اللهو الرسمى إزاء القوى السلفية المتأسلمة قد منحهم القدرة على تحقيق تمدد شعبوى على امتدادات لم تكن متصورة.. وهى إذ تكتسب أرضاً يوماً بعد يوم فإنها تمنح نفسها فرصة تحويل التاريخ إلى هاجس مغلق. فوزارة الأوقاف، مثلاً، تعطى لزعيم السلفيين المتأسلمين فرصة إلقاء خطبة الجمعة فى مسجد بالإسكندرية، والرسالة هنا أنه يصلح للتحدث باسم الدين فى فضائيات مسمومة يهاجم النصارى الكفار وتكون سهام تأسلمهم المسمومة موجهة أساساً إلى الكنائس.. فكيف؟ ولماذا؟
ولأن التاريخ كان وسيظل دوماً وأبداً كنز الماضى، فإن المتأسلمين يتحولون به ليصبح هاجس الحاضر ومصدر إشعال فتن التأسلم. وحتى من لا يلتحق بركاب الإرهاب ويبقى أسيراً لفكر التأسلم فإنه يظل يندب حظه لأن العصر الذهبى فى التاريخ قد فاته. بينما هو عاجز عن بناء مستقبل لحياة أفضل.