«القرافة الأثرية».. مزارات سياحية غارقة فى «الصرف» وحظائر للماشية
قبر «شويكار» على هيئة سرير
ما إن تدلف من تلك البوابة المواجهة لمسجد الشرطة بطريق صلاح سالم، وبعد العبور فى زقاق يبلغ طوله بضعة أمتار حتى ترى ما لم تكن تتوقعه، مساجد ضخمة، وقباب أثرية تكون لوحة فنية فائقة الجمال، إلا أن هذا الجمال مطموس، بعد أن زحفت عليه تعديات أتت على أجزاء كبيرة منه، بالإضافة إلى مياه الصرف الصحى التى قضت على ما تبقى من مجموعات أثرية بكاملها، فيما تحولت مناطق أخرى إلى حظائر للماشية والطيور، بعدما اعتبرها قاطنوها ملكاً شخصياً يجوز لهم التصرف فيه، فهى إما ورش، أو مخازن، أو منازل، وحتى مقاهٍ، فيما حول اللصوص بعضاً منها إلى سوق مفتوحة، وكلما طُلب منهم قطعة أثرية سارعوا إلى استخراجها من تلك المنطقة البكر الغنية بالآثار، والتى سرعان ما تظهر فى متاحف دول مجاورة أو ضمن مجموعات خاصة معروضة فى مزادات دولية تحت اسم قطع مجهولة المصدر.
«الزهار»: المنطقة استخدمها ملوك وأمراء مصر فى إنشاء المساجد وألحقوا بها مدافن ضريحية.. وتضم قبة يوسف الدوادار ومجموعة الأشرف «برسباى» ومسجد السلطان «قايتباى»
«تعتبر منطقة قرافة المماليك أو صحراء المماليك الشرقية من أهم الجبانات الأثرية الباقية»، قال الباحث الأثرى، سامح الزهار، حيث استخدمها ملوك وأمراء مصر منذ نهاية القرن الثامن الهجرى، الرابع عشر الميلادى، فى إنشاء المساجد والخنقاوات، وألحقوا بها مدافن ضريحية لهم ولذويهم، ومع نهاية القرن الخامس عشر الميلادى لم تعد تلك المنطقة منطقة مقابر فقط بل تعدت ذلك لتصبح منطقة مبان تراثية فريدة، يمكن استغلالها كمزار سياحى، حيث تحوى تلك المنطقة خانقاه السلطان الناصر فرج بن برقوق وقبة يوسف الدوادار والمجموعة المعمارية للأشرف برسباى والمجموعة المعمارية للسلطان أينال ومسجد السلطان قايتباى ومقعدة وربعة ومجموعة من القباب النادرة، وتابع: «نظراً لأهمية المنطقة بما تحويه من عمائر دينية ومدنية مختلفة ومتنوعة، وآثار نادرة أصبحت مطمعاً للصوص ساعد على ذلك انعزالها وتحولها لمنطقة مقابر فى العصر الحديث، ثم كأماكن للإيواء والسكن فى ظل حالة زحف عشوائى كان سبباً فى التعدى على الآثار والبناء حولها وعليها فى غياب المنظومة الحكومية، التى زادت الطينة بلة بإهمال المنطقة وحرمانها من البنية التحتية، ما سبب ارتفاع المياه الجوفية فى تلك المنطقة وأضر بعشرات المواقع الأثرية بها.
وقال الباحث الأثرى محمد سيد: «للأسف فإن تلك المنطقة الغنية بالكنوز لم يلتفت لها سوى اللصوص، فى ظل حالة من الصراع المستمر بين وزارتى الآثار والأوقاف حول أحقية كل منهما فى المنطقة، وكان نتيجة ذلك سرقة النص التأسيسى لمجموعة السٌلطان المملوكى فرج بن برقوق، الذى يعتبر البطاقة الشخصية للأثر، التى تتضمن معلومات إنشائه وهى عبارة عن شريط كتابى يعلو فتحة باب القبة الحريمى يمين إيوان القبلة، وأضاف: أما جامع قايتباى، الذى يعتبر درة آثار مصر الإسلامية عامة وجبانة المماليك خاصة وتحفة معمارية وفنية، لما يمثله من مقاييس محددة بدقة غير مسبوقة، فقد تعرض للعديد من السرقات، منها سرقة حشوات كرسى المصحف المطعمة بالعاج والأبنوس، وسرقة حشوات المنبر بل وسرقة حشوات الباب، وكذلك «الصرة النحاسية» للمسجد، كما تعرض منبر مسجد الأشرف برسباى، الذى يعود بناؤه إلى مئات السنين، وهو المسجد الذى يعد تحفة معمارية، فأرضية غرفة الدفن والمغلقة دائماً فرشت بالكامل من المرمر، للسرقة، فسرق باب مقدمة المنبر وحتى المقابر لم تسلم من اللصوص، حيث تعرضت قبور الأسرة العلوية لهجمات متتالية كان أخطرها سرقة كسوة الكعبة بقبة الخديوى وحلى معدنية من التركيبات الرخامية للأضرحة، وكل تلك الآثار فقدت للأبد والفاعل مجهول، مشيراً إلى أن اللص يدخل المسجد ويختبئ فى أى مكان داخله، حيث يتم غلقه بعد صلاة العشاء ولا يفتح إلا مع صلاة الفجر، وحينها يكون قد سرق وبعدها يخرج ليجد سيارة تنتظره ويذهب بما سرق أثناء أداء المصلين لصلاة الفجر، وتابع سيد: لصوص تلك المناطق يعون جيداً قيمة تلك الآثار، خاصة أن عدداً كبيراً من الآثار غير مسجل وكل منقولات الآثار غير مسجلة، واللص يعى جيداً قيمة ما يسرقه، وأن سعره لن يكون بالقليل، خاصة أنها قطع فريدة، لذا فليس غريباً أن نجد سيناريوهات متعددة للسرقة لعصابات كاملة، مثلما حدث يناير الماضى مع قبر شويكار النادر المصنوع على هيئة سرير ذى وسائد ونقوش، حيث ادعى اللصوص أنهم إعلاميون يبغون زيارة الضريح وتصويره، ولأن التركيبة الرخامية النادرة التى تحمل توقيع واحد من أشهر فنانى أوروبا فى تلك الفترة غير مسجلة كأثر عزموا على سرقتها وقاموا بتوثيق حارس الضريح السبعينى والمعين من الأوقاف وسارعوا بمحاولة فك التركيبة، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل بعدما اكتشفوا أن الرخامة مكونة من قطعة واحدة وغادروا على وعد بالعودة، والغريب أن حارس الضريح فشل فى عمل محضر بحجة أن السرقة لم تتم، وأضاف الباحث الأثرى: «أما المخاطر التى تهدد آثار المنطقة المتعددة فحدث ولا حرج، فقد تعرضت قبة الأمير سلمان مؤخراً لما أطلقت عليه وزارة الآثار عوامل التعرية، التى كانت سبباً فى البلاطات الزرقاء أعلى القبة، كما تعرضت بعض قباب مسجد الأشرف برسباى للسقوط نتيجة لعدم ترميمها منذ عقود طويلة، على الرغم من الأعمال الخيرية الموقوفة لترميم المسجد، التى يرجع بعضها إلى وقف خيرى للسلطان (برسباى) نفسه ورد فى شريط كتابى نادر يتضمن الأوقاف التى أوقفها السلطان على المسجد والقباب الموجودة به، وهى مهددة بالاندثار نتيحة عدم الترميم، فيما اتخذت القمامة من أبواب وأسبلة المنطقة مقراً لها وتحولت إلى مأوى للحيوانات الضالة، فيما تهدم الجزء الخلفى من السور المحيط بـ«تكية أحمد أبوسيف» الذى يعتبر أحد الآثار العثمانية المهمة بالمنطقة، ولم يبق إلا الواجهة الرئيسية على الشارع.
وقال محمد رشاد، مدير عام مناطق آثار شرق القاهرة، إن المنطقة تحوى 67 أثراً، منها 36 بمنطقة صحراء المماليك وتمتد منطقة شرق من منطقة «التونسى» وحتى طريق مصر السويس الكيلو 21، ولدينا أكبر تجمع للآثار المملوكية الجركسية، وهو ما يتميز به عن شارع المعز، وأضاف، «لدينا تصور تقدمنا به للسعيد حلمى، رئيس القطاع، يضم منع سير السيارات الخاصة والاستعانة بعربات كهربائية تمر فى مسار محدد مصحوب بشرح لكل أثر، وبدأنا تنفيذ الخطة بالفعل بالتعاون مع أهل المنطقة المحيطة بمسجد السلطان قايتباى، ولكن الأمر لم يتخط الميدان لعدم توافر التمويل، وهو العائق الأكبر الذى يمنعنا، فمشروع بهذا الحجم يحتاج تغيير مواسير المياه والصرف الصحى ووضع طبقات من البلاط المشابهة لهذا الموجود فى شارع المعز، وتابع: «لدينا مشكلة أخرى هى تداخل الاختصاصات بيننا وبين وزارة الأوقاف، التى تشرف على المساجد الأثرية العاملة، حيث تمول هى عمليات الترميم ومن المفترض أن ترعى المساجد أمنياً، وفى محاولة لفض هذا الاشتباك الذى يعرض الآثار لمخاطر السرقة أو نقص الصيانة تم تشكيل لجنة من الآثار لحل المشكلات العالقة مع «الأوقاف».
أحد أضرحة المماليك