«جاك بيرك» شيخ المستشرقين الفرنسيين ترجع أهميته إلى أنه يُعتبر «مدرسة»، تخرج فيها عدد من المستشرقين الأوروبيين.. كان يجيد التحدث باللغة العربية، واعتاد أن يقرأ 4 ساعات يومياً فى الشعر الجاهلى، أو حسب وصفه «كنت أعتبر القراءة فى الشعر الجاهلى petit déjeuner، الخاص بى».
الغريب أنه لم يكن يقرأ وحده، وإنما كانت تشاركه زوجته الأخيرة (الأميرة الإيطالية) التى أوصاها ألا تفتح وصيته إلا بعد 50 عاماً من وفاته.
وقد تطوع البعض بأنه أوصى فى أوراق سلّمها إلى زوجته بأنه أعلن إسلامه.. وهذا ما أشك فيه كثيراً، لأن جاك بيرك، الذى كنت ألتقى به كل مرة أزور فيها باريس أشجع من ذلك بكثير، ولو كان أعلن إسلامه كان يمكن أن يصرح به فى حينه، فأذكر مرة أنه قال لى إن علاقاتنا قد توطدت كثيراً لأسباب عديدة، منها أنك لم تسألنى سؤالاً اعتدتُ عليه ممن كنت ألتقيهم لعمل حوارات صحفية وهو: «لماذا لم تُعلن إسلامك؟»، وإجابتى على كل حال هى أن قمة احترامى لكاثوليكيتى هى سر احترامى للدين الإسلامى!
لقد كان يرحمه الله يتمسك بأخلاق المسلمين فى كل شىء، ولم أشعر شخصياً أننى كنت أحاور أو أجلس مع شخص من ديانة أخرى.
لقد نجح جاك بيرك فى أن يجعلنى أنسى الديانات، وأتذكر أننى أحاور عالماً فرنسياً قريباً من نفسى وقلبى.
وما أحزن له هو أننى علمتُ أن أحد أنجاله تقدم بأوراقه ليعمل فى مكتبة «العالم العربى» بباريس، فانقسمت لجنة التوظيف حوله.. ورجّحت كفة من يرفضون تعيينه.. وخرج الشابُ باكياً، وأحسب أنه كان يلوم والده الذى سلخ نحو خمسين عاماً فى التخصّص فى الإسلاميات والقرآنيات واللغة العربية.
لقد حزن جاك بيرك كثيراً عندما قرأ اتهاماً له بأنه عدو الإسلام.. وأذكر أنه قال لى متأثراً إنه يقبل اتهامه بأى شىء إلا أن يكون عدواً للإسلام، ليس لأن ذلك غير صحيح وكفى، لكنه يحب الإسلام والمسلمين، وتخصص فى الإسلاميات، وتربطه بأهل مصر والجزائر، التى وُلد فيها، صلات قوية تقوم على الاحترام المتبادل والتفكير العقلى، ولا يكاد يعرف «تابوهات» من تلك التى يتشدق بها على غير حق أهل الجمود فى كل عقيدة ودين!
إن جاك بيرك أمضى فى القاهرة سنوات كثيرة عندما جاء موفداً من «اليونيسكو»، ليعمل فى سرس الليان، ثم اقترح عليه صديقه طه حسين أن يعمل أستاذاً محاضراً بكلية الآداب بجامعة عين شمس (وكانت تُسمى جامعة إبراهيم باشا)، ثم اختاره المجمع اللغوى، ليكون أحد أعضائه.
وقد ارتبط جاك بيرك بفضاءات ثقافية عديدة، والتقى بأصدقائه من أهل الثقافة فى منتديات ولقاءات وأماكن كثيرة، ولن ينسى أنه تحدث فيها لأول مرة عن نظريته الشهيرة (فى الأصالة والمعاصرة).
والتقى بالرئيس جمال عبدالناصر، وأمضى فى رحابه نحو ساعتين، وبعد أيام أشار «عبدالناصر» فى خطابه إلى نظرية الأصالة والمعاصرة، فاتهمه بعض الخبثاء بأنه كتب لـ«عبدالناصر» خطابه هذا، وهو ما لم يحدث، وأنكره جاك بيرك بقوة.
وكان الرئيس عبدالناصر يحرص على لقاء المفكرين فالتقى بعد عام 1960 بالفيلسوف الفرنسى الوجودى جان بول سارتر، وآخرين.
يبقى أن جاك بيرك كان آخر القلاع التى تدافع عن العرب والإسلام، فكتب فى جريدة «لوموند» الفرنسية مقالاً يدافع فيه ليس عن صدام حسين إبان الأزمة مع الغرب، ولكن عن الشعب العربى العراقى، وحضارة العرب والمسلمين فى بغداد.
وكان يرى أن مصر هى درة الشرق، ولا نهضة للإسلام العقلانى الحنيف إلا بوجود مصر وقيادتها للعالم الإسلامى.
ولم يكن ذلك من منطلق تعاطف مع مصر، كما قد يظن البعض، ولكن من منطلق قراءات عميقة فى تراث مصر العقلانى منذ زمن رفاعة رافع الطهطاوى، والإمام المستنير محمد عبده، وصولاً إلى العقاد وطه حسين.
وكان يرى عيباً خطيراً فى أصدقائه العرب، وهو أنهم لا يعرفون عدوهم من صديقهم.. فكله عند العرب صابون «قال ذلك واضحاً»، وكان يشبههم برجل يقف على جذع شجرة، ثم يحاول أن يقوم بقطعها! فمر عليه رجل آخر، وحذّره من أن عنقه ستندك إذا استمر فى القطع، فلم يُكلف خاطره أن يفكر، واستمر فى ما هو فيه!
وكان متحمساً لما كتبه صديقه طه حسين عن البحر المتوسط الذى كان يقول فيه: «إن البحر الأبيض المتوسط هو بحرنا، كما أنه بحر الغرب، فلماذا نخاف منه؟».
وأضاف جاك بيرك يقول: لقد سجلت هذا بشكل تفصيلى فى كتابى «حديث الضفتين»، وهو ما تجلى لاحقاً فى فكرة الاتحاد من أجل المتوسط، التى تحمس لها فى ما بعد نيكولا ساركوزى، رئيس فرنسا الأسبق، واختار مصر لتكون معه عاصمة الدول المشاطئة للبحر المتوسط جنوباً.
لقد كانت أقصى أمانى جاك بيرك أن يستقبل كلمة من شيخ الأزهر ليضعها فى صدر الطبعة الثانية من ترجمته للقرآن، ورفض نصيحة الفيلسوف عبدالرحمن بدوى من أن أحداً فى الأزهر الشريف لن يرسل إليه هذه القصاصة من الورق، والسبب هو أن الأزهر لا يعرف اللغة الفرنسية.
وكان رد جاك بيرك أنه يحترم الأزهر ويُقدر شيوخه وأن الأزهر الشريف أكبر وأهم جامعة فى العالم الإسلامى.
واليوم شيخ الأزهر الحالى درس الإسلاميات فى فرنسا، وعيّن سابقه أزهرياً يجيد الفرنسية لمراجعة كل ما يُكتب عن الإسلام بهذه اللغة.
يرصد كتابى (إشكالية ترجمة معانى القرآن الكريم - محاكمة جاك بيرك)، وكتاب (جاك بيرك فى القاهرة) موقف هذا العالم الكبير الذى رحل عن دنيانا فى مثل هذه الأيام من نهاية القرن الماضى (العشرين) وصولاته وجولاته فى الأزهر الشريف وبالقاهرة.
■ أوصى جاك بيرك أن يصطحب معه فى رحلته الأخيرة كتابين الأول: القرآن الكريم. والثانى: ترجمته لمعانى القرآن الكريم، ليلقى بهما وجه الله.