إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون وسائل الإعلام العالمية بانتظام، فلا شك أنك تساءلت عن سبب الاحتفاء الكبير بمجموعة من صور الرئيس الروسى بوتين، التى تم التقاطها، فى الأسبوع الماضى، أثناء قضائه عطلة مدتها ثلاثة أيام، فى إحدى مناطق سيبيريا.
تظهر تلك الصور بوتين، البالغ من العمر 64 عاماً، يصطاد السمك بالرمح، متجرداً من ملابسه العلوية، فضلاً عن مشاهد أخرى تبرز الرئيس وهو يسبح فى ماء البحيرة، الذى لا تزيد درجة حرارته على 17 درجة، كما أوضح المتحدث باسم «الكرملين» فى تعليقه على الصور.
لم يكتف المتحدث بذكر تفاصيل الصور وظروف التقاطها، ولكنه قال أيضاً إن الرئيس «طارد سمكة ضخمة وزنها 20 كيلوجراماً لمدة ساعتين، لكى يصطادها بالرمح، وليس بالرصاص»، قبل أن يشير إلى أن بوتين فى النهاية «حصل على ما يريد».
لم يرد «بوتين» الحصول على السمكة فقط، على الأرجح، لكنه أراد أيضاً أن يبرز تمتعه بقدرات بدنية عالية، تمكنه من الصمود عارى الصدر، فى منطقة تعد من الأكثر صقيعاً فى العالم؛ وهو كما تقول «حصة التصوير» يتمتع أيضاً بـ«الصبر، والدهاء، والإرادة، والقوة، التى تمكنه من الحصول على ما يريد مهما كان صعباً، ومهما كانت الظروف غير مواتية».
ليس هذا خبراً إجرائياً مدعماً بالصور، عن تفاصيل عطلة يمضيها الرئيس، كتلك الأخبار التى يتم تداولها عن عطلات نظرائه فى دول العالم المختلفة، ولكنه تدشين لحملة انتخابية، يريد الرئيس أن يتوجها بالفوز فى الانتخابات الرئاسية المنتظرة، فى مارس المقبل.
يبدو أن المطلوب هو إدراك أن الرئيس فى طريقه إلى النجاح فى تحقيق هدفه، مثلما نجح تماماً فى اصطياد السمكة الضخمة المراوغة، ويبدو أيضاً أن القوة والدأب والمجالدة التى يتحلى بها فى الصيد، ساعدته فى خوض غمار الصراعات الدولية التى ينخرط فيها ويحقق نجاحاً؛ كما فى القرم، وسوريا، ومناطق أخرى داخل بلاده وخارجها، فى مواجهة أعداء ومنافسين أقوياء.
يعطينا هذا المثال العبرة الأوضح لتأثير الصورة فى مسار العلاقات الدولية والتنافس السياسى، وهو تأثير يبدو أكثر فاعلية من ذلك الذى يتحقق عبر الخطاب، والإنجازات السياسية، وحتى استخدام البرهنة والمنطق والحجج الوجيهة.
فى عام 1972، التقط مصور أمريكى صورة لفتاة من فيتنام، تجرى عارية مذعورة، إثر تعرضها لقصف بقنابل النابالم؛ وهى الصورة التى يسود اعتقاد واسع بأنها كانت أحد الأسباب المهمة لإنهاء حرب فيتنام.
تسببت تلك الحرب فى مقتل نحو 1.1 مليون فيتنامى، وجرح ثلاثة ملايين، وخلّفت نحو 13 مليون لاجئ، بالإضافة إلى أكثر من 57 ألف قتيل بين القوات الأمريكية.
توضح صورة الفتاة، وتدعى «كيم فوج»، مدى الأسى الذى تحمله الشعب الفيتنامى بسبب تلك الحرب المجنونة بين الشماليين والجنوبيين، والتى تدخلت فيها الولايات المتحدة، على خلفية حربها ضد النفوذ الشيوعى فى المنطقة.
لقد أثرت الصورة فى العالم أجمع، ورغم أن الرئيس الأمريكى نيكسون نفى صحتها آنذاك، فإن المصور الذى التقطها حصل بسببها على جائزة «بوليتزر»، مخلداً اسمه بين أفضل المصورين فى العالم، كما أن «كيم» نفسها صارت لاحقاً رمزاً إنسانياً للسلام، وباتت سفيرة للنوايا الحسنة لـ«اليونيسكو».
من منا ينسى صور «مذبحة قانا» التى جللت شاشات العالم بالأسى، حين أظهرت الأطفال المحروقين إثر القصف الإسرائيلى، فى عام 1996، وهى الصور التى لعبت دوراً مؤثراً فى صياغة صورة إسرائيل لدى قطاعات كبيرة من الرأى العام العالمى.
أما الصورة الخاصة بمحمد الدرة، ذلك الطفل الفلسطينى، الذى أطلقت السلطات الإسرائيلية الرصاص عليه وعلى والده، أثناء انتفاضة الأقصى فى عام 2000، فقد حركت بدورها مشاعر الكثيرين فى العام أجمع، وأصابت إسرائيل بأضرار كبيرة، وظلت قيداً على الممارسات غير الإنسانية للسلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
الصور التى كشفت انتهاكات القوات الأمريكية للأسرى العراقيين فى سجن «أبوغريب»، فى عام 2004 أيضاً كان لها تأثير حاسم فى إعادة صياغة صورة التدخل الأمريكى فى العراق.
وفى عام 1993، كان المصور الجنوب أفريقى «كيفين كارتر» فى رحلة عمل إلى جنوب السودان، الذى كان أطفاله يعانون المجاعة فى تلك الأثناء، حيث تفقد العمل الجارى فى مجمع لمنح المساعدات الغذائية للسكان المحليين، قبل أن يجد طفلة مريضة هزيلة بسبب نقص التغذية، تعانى فى طريقها للوصول إلى مستودع الغذاء، فى وقت يقف بجوارها نسر، يرقبها متربصاً، لاختيار الوقت المناسب للانقضاض عليها.
لقد التقط كارتر تلك الصورة بالفعل، وهى الصورة التى باتت تعرف لاحقاً بصورة «النسر وطفلة المجاعة»، ورغم أن المصور انتحر عقب حصوله على جائزة «بوليتزر» عن تلك الصورة، فإن أثرها ظل فعالاً، خصوصاً لأنها ألقت الضوء على معاناة أطفال السودان جراء نقص الغذاء.
وفى عام 2015، ظهرت صورة جديدة اتخذت طابعاً إنسانياً مأساوياً، وهى الصورة التى أظهرت غرق الطفل الكردى «إيلان» على الساحل التركى، حين كان بصحبة عائلته التى حاولت الهجرة إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة.
يعانى الشعب السورى أزمة إنسانية مأساوية خطيرة، توضحها الإحصاءات، لكن الأرقام الجافة، والعبارات الجامدة، لم تصنع تغييراً، ولم تحرك العالم ليتخذ القرارات الصحيحة الكافية لمقاربة تلك الأزمة، وهو الأمر الذى ربما نجحت فيه صورة الطفل «إيلان» جزئياً.
لعلك تذكر صورة الرئيس الأسبق مرسى حين أتى بحركة غير لائقة خلال لقائه رئيسة وزراء أستراليا، أو صورة الرئيس اللبنانى عون وهو ينكب على وجهه فى القمة العربية الأخيرة، وتلك الصورة التى أوضحت كيف ينظر الرئيس الفرنسى الأسبق ساركوزى إلى سيدات بطريقة مبتذلة.
لا يمكن أن ننسى صورة الرئيس عبدالناصر، حين حمل المؤيدون سيارته فى دمشق، أو صورته وهو يلقى خطاب التأميم، أو المشهد المؤثر البديع الذى رسم أبعاد مكانته فى قلوب الجماهير.. أى مشهد الجنازة فى عام 1970، كما يصعب أن نغفل أثر صورة السادات ملقياً خطاب النصر فى مجلس الشعب 1973، أو مقتولاً على المنصة.
نعود إلى بوتين، الذى تقول التقارير إن صورته سابحاً عارى الصدر، كما صوره الأخرى التى تظهره فى أوضاع الجاهزية البدنية، ترفع شعبيته باطراد، حتى إن التوقعات كلها تشير إلى فوز مؤزر سيحققه فى الانتخابات المنتظرة.
لهذه الأسباب، يجب أن يحرص الزعماء على صورتهم، إذ تبرز العلاقة واضحة بين «الصورة الذهنية» للقائد (أى جملة الانطباعات المتولدة عنه فى أذهان الجمهور)، وبين صورته الفوتوغرافية.
يعد هذا مناط تكليف للفرق الرئاسية، وخبراء العلاقات العامة، وحين يفشل هؤلاء فى مهمتهم، فإن فرص الرئيس تتضرر.
أما أفضل ما يمكن أن يحصل عليه قائد ما فى هذا الصدد، فليس سوى صورة براقة تظهر الشجاعة والقدرة والإرادة، أما أفضل ما تحصل عليه الشعوب، فليس سوى صور تتسق مع الواقع، وتعبر عنه من دون ألعاب «البروباجندا»، وأكاذيبها ومبالغاتها.