فقد العالم العربى والإسلامى هذا الأسبوع ثلاثةً من الأعلام الذين أثْروا الحياة العلمية والفكرية بما بذلوه من مجهودات فى خدمة الإنسانية والعلم والتصوف، وأول الثلاثة: الشاب الصوفى الأزهرى البحَّاثة طبيب الكبد الدكتور عبدالرازق محمد على، وثانيهم: المفكر الكبير أيقونة حوار الأديان الدكتور على السَّمان، وثالثهم: المربى الصوفى الشيخ عبدالله التليدى.
لم تشهد جامعة الأزهر ولا محافظة الأقصر ولا البيئة الطبية مأتماً يغص بالناس عن حسرة كاوية وفجيعة كارثة كما شهدت مأتم فقيد الطب ورجل المروءة، وخادم المرضى، الشاب الدكتور عبدالرازق محمد على، أحد أشهر المتخصصين فى زراعة الكبد، والتلميذ النجيب لعالم زراعة الكبد العالمى الدكتور «تناكا»، والفقيد -عليه سحائب الرحمة- ينتمى إلى قرية الضبعة بالأقصر، وحصل على الدكتوراه فى زراعة الكبد من اليابان، وعلى جائزة الدولة التشجيعية، واختارته جامعة زويل للعمل فيها، ولذلك وجب على الرئيس السيسى وعلى مشيخة الأزهر وجامعته تكريم اسمه فى أقرب مناسبة.
ومنذ عرفنا الفقيد أيام الجامعة ونحن نرى فيه القيم العليا، والمثل الكبرى، ومن مواقفه المشرفة أنه رفض فتح عيادة خاصة به كعادة الأطباء، ولو فعل ذلك لكان من الأثرياء، لكنه رحل إلى جوار ربه تاركاً لأولاده الثلاثة شقة صغيرة، واكتفى بالكشف على المرضى من خلال مستشفى أسوان ومستشفى جامعة الأزهر بأسيوط، ووهب حياته للبحث العلمى، فنشر أكثر من ثلاثين بحثاً متخصصاً، وكما أن (العلم والإعلام لا يجتمعان) فأيضاً (التفرغ لقضاء مصالح الناس والبحث العلمى لا يجتمعان)، إلا أن الفقيد كسر القاعدة الثانية، فلم تشغله أبحاثُه عن إجابة دواعى المروءة، فنهض متحاملاً على نفسه يخدم المرضى، ويداوى جراحهم، وإننا فى مصر -كما قيل- لا نرحم رجلاً من رجال الخير يعرف الناسُ عنه قضاء مصالح الناس، حيث نلحُ عليه بما يرهقه، لأن ندرة هذا المعدن النفيس تجعل الإقبال عليه كبيراً لتحقيق المآرب، وصاحب المروءة يتحمل الكثير فى بلد قلَّتْ فيه المروءات، لأنه يكون هدفاً لمشاق وأتعاب لا تنقطع ولا تليد، هكذا كان الشاب الفقيد هدفاً لكل صاحب مصلحة، ومع ذلك جمع بين قضاء مصالح الناس وإنجاز أبحاثه العلمية.
ومن مآثر الفقيد أن دولةً خليجية طلبته ليكون طبيباً للأسرة الحاكمة بمبلغ مادى لا يخطر على البال، لكنه رفض، حيث رأى أن ذلك لا يتناسب مع مصريته وأزهريته، وفضَّل أن يتجه للبحث العلمى الحر، فذلك عنده أنفع وأبقى، وهو فى رده لطلب الأسرة الحاكمة لم يكن فظاً غليظاً جافاً، بل كان خلوقاً مؤدباً رحيماً، فأنزل الناس منازلهم بما يليق بمكانتهم ومناصبهم ويتماشى مع أدبه وأصوله الصعيدية وتصوفه.. فسلام عليه فى الخالدين.
وما هى إلا ساعات وجاءت فجيعة جديدة وخسارة فادحة بسبب رحيل أيقونة حوار الأديان المفكر الكبير والشخصية المصرية البارزة الدكتور على السمان، عن 88 عاماً، وهو صاحب دور وطنى معروف، ومستشار شيخى الأزهر السابق والحالى لحوار الأديان، وقد بدأ حياته عضواً فى جماعة الإخوان وتركها بعد اغتيالها للمستشار الخازندار، حيث ظهر له أن للجماعة وجهاً دعوياً وآخر مسلحاً، وصار أحد رموز التقريب بين الأديان.. فيا رحمة الرحمن حُفى على العالم الجليل.
وقبل إرسال المقال نعت الصحف والمواقع المغربية رحيل المربى الكبير والشيخ الصوفى سليل بيت النبوة نزيل طنجة الشيخ عبدالله التليدى، عن عمر تجاوز المائة سنة، وشيع جنازته جمع مهيب من العلماء وطلبة العلم ورموز المغرب، وكان الشيخ الفقيد قد تلقى العلم على أيدى كبار علماء عصره، وعلى رأسهم علماء آل الصديق الغماريين، حتى صار عالماً كبيراً، وأسس مدرسة علمية عريقة، تبقى شاهدة له ولخدمته للتصوف والوسطية.. رحم الله الثلاثة وأمطرهم برضوانه وغفرانه فى أكرم جوار وأعز دار.