حين بدأ الاقتصاد اللبنانى فى الانهيار قبيل الحرب الأهلية.. كان رقم مليون ليرة رقماً ضخماً بالفعل.. ربما كان هو الحلم الأعظم والهدف المطلق لكل مواطن أن يتمكن من الحصول على مبلغ بهذا الحجم.. بل ربما أكاد أجزم أن أحداً لم يكن يمتلكه من الأساس اللهم إلا كبار رجال الأعمال وبقايا مهاجرى أمريكا اللاتينية الذين انتشروا فى لبنان فى تلك الفترة!
ثم مرت السنوات لتنهار الليرة اللبنانية انهياراً قاسياً.. حتى إن الحكومة قد اضطرت لطبع ورق نقدى بفئات مرتفعة للغاية..
لا أعرف إن كانوا قد طبعوا تلك الورقة ذات المليون ليرة أم لا.. ولكننى أعرف أنهم جعلوا ذلك المليون عبارة عن رزمة صغيرة من أوراق النقد اللامعة!!
ربما لم تنته الليرة اللبنانية من الوجود تماماً.. إلا أنهم قد استبدلوها الآن بالدولار الأمريكى فى معظم تعاملاتهم الخاصة.. فأصبح يمكنك أن ترى محلات العاصمة الكبيرة تعرض بضاعتها مكتوباً عليها السعر بالدولار وليس بتلك الليرة الشهيدة!
الفكرة هى كيف استوعب اللبنانيون خلال تلك الفترة انخفاض القوة الشرائية لعملتهم التى لم يعرفوا غيرها من قبل.. كيف ومتى استوعبوا أن ما كان يمكنهم شراؤه بألف ليرة أصبح يكلف أكثر من مائة ألف!!
المشكلة أن هناك ارتباطاً شرطياً بين السلعة وقيمتها عند معظم البشر.. ارتباطاً يمكنه أن يستوعب اختلافاً طفيفاً أو ارتفاعاً مقبولاً مضطرداً فى قيمتها.. ولكنه يهتز بشدة حين يتعرض لارتفاع عنيف كالذى نراه اليوم فى أسعار السلع والخدمات!
هل تفهم ما أعنيه؟.. فعلبة التبغ تساوى فى ذهنى حتى الآن خمسة جنيهات فحسب.. ربما أتقبل أن أدفع فيها سبعة أو حتى عشرة جنيهات مثلاً إن ابتعتها من أحد المتاجر الفخمة.. أو حتى أتقبل زيادة سعرية فى حدود نفس الأرقام.. ولكننى معرض لهزة نفسية عنيفة حين أدفع أكثر من ثلاثين جنيهاً ثمناً لها!!
إن الثلاثين جنيهاً مرتبطة فى ذهنى بسلع أخرى ومقتنيات مختلفة.. وبحجم آخر من المشتريات..
فروق بهذا الحجم فى الأغلب لا تحدث فى جيل واحد.. ربما حكيت لأولادى كيف أنها كانت بخمسة جنيهات حين يتزوجون.. ويبدأ كل منهم فى التدخين سراً.. فيبتاعونها بذلك السعر.. ولكننى بالتأكيد سأشعر بمشكلة حقيقية حين أشتريها بأكثر من سبعة أضعاف سعرها منذ عشر سنوات فحسب!!
اختلافات بهذا الحجم تبعث فى النفس خوفاً مبهماً من المستقبل.. تجعل الفرد أكثر قلقاً عما ينبغى عليه أن يحمله أو يدخره ليؤمن مستقبله القريب..
ربما كانت تلك هى المشكلة الرئيسية فى إجراءات الحكومة الأخيرة لزيادة أسعار الوقود وخلافه.. فحين تعيش نصف عمرك وأنت تبتاع البنزين بسعر ثابت.. ثم يقفز سعره خمسة أضعاف فى سنوات معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. حتماً ينبغى عليك أن تشعر بالقلق!
لا شك أن الخطأ لا يقع على تلك الحكومة فحسب.. إنها خطوات تم تأجيلها لعقود طويلة لأهداف سياسية بحتة.. ولكن شاء القدر أن يتحمل هذا الجيل كل ما كان يفترض أن تتحمله الأجيال السابقة.. أن يأتى أخيراً مَن لا يخشى أن يتخذ القرار رغبة فى الحصول على مكاسب سياسية أو انتخابية!!
إنه اختبار قاسٍ حقاً.. فالمجتمع المصرى يعاد تشكيله من جديد على أساس مختلف عن كل ما تعودنا عليه طيلة سبعين عاماً ماضية.. وربما أبعد من ذلك بقرون طويلة!
إنها محنة ستنتج جيلاً مختلفاً فى تفكيره وأولوياته ونظرته للمستقبل.. مختلفاً فى عاداته الاستهلاكية.. وحواراته الخاصة.. حتى فى درجة تقاربه وتمتعه بفضيلة الكرم..
إنه اختبار من ذلك النوع الذى لن تجد الشعب بعده كما كان قبله.. لن تجده أبداً!!