كل البلاد عند "درويش" أوطان: بكى في تونس وأقام ببرج الحكماء في القاهرة
بطاقة محمود درويش
عاش بلا وطن فكانت له كل البلاد أوطانا.. وأنشد مخاطبا فلسطين الضائعة: "يا أيها البلد البعيد.. كل البلاد بلادنا"، من فلسطين لموسكو وبعدها مصر لتتوالى رحلته عبر المدن العربية، حاملا شعره تأشيرة دخول وقضيته الفلسطينية ترفرف على رايته، ارتشف رحيق المدن فأنتج لنا إرثا عربيا متكامل الأركان.. محمود درويش شاعر الأرض المحتلة و"شاعر القضية"، الذي ناقش قضيته بلغة عالمية فتذوق شعره الكون بلغاته المختلفة، لكنه ظل غريبا.
"لما ضيّق الاحتلال الإسرائيلي عليه الخناق سافر إلى موسكو"، قالها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، مضيفا عن "درويش" أنه لم يكن شاعرا فقط، بل ثائرا أيضا، فهو لم يستخدم قلمه في كتابة الشعر والنثر فقط بل كتب "البيان السياسي" لتحرير فلسطين، في سبعينيات القرن الماضي، واعتقل عدة مرات إلى أن سافر إلى موسكو، ومنها إلى القاهرة وبعدها العديد من المدن العربية.
ويوضح "أبو سنة" لـ"الوطن"، أن ترحال درويش أثرى تجربته الشعرية، فسفره إلى بيروت أثناء الغزو الإسرائيلي ظهر في قصائده فأنتج أعمالا رائعة، فتجربة درويش "الهائلة، تجربة من أقوى التجارب، داخل الأراضي المحتلة أو خارجها".
"الشاعر العظيم هو الذي يمتلك ثقافة عظمية".. هكذا يقول "أبو سنة" مختتما حديثه عن "درويش"، لافتا إلى الثقافة الواسعة التي كان يتمتع بها الشاعر الراحل وإتقانه عدة لغات منها العبرية والإنجليزية والفرنسية.
ويقول الدكتور حسين حمودة الناقد الأدبي: "أتصور أن تجربة محمود درويش فيما بعد خروجه من فلسطين، إلى "المنافي الواسعة"، بتعبيره، هي التجربة الأهم في عالمه كله، وفيها تمثلت دواوينه ابتداء من "أحبك أو لا أحبك" 1972 حتى دواوينه المنشورة خلال الثمانينيات ثم التسعينيات، استطاع أن ينظر إلى مأساة ضياع وطنه نظرة أعمق، وأن يعيد النظر في كثير من المسلمات، وأن يكتشف بعض الاكتشافات التي لا تخلو من مرارة، ويحيا في زمن جديد، ويتعايش مع أماكن لا حصر لها، أصبحت أماكن للإقامة لا الانتماء.
ويتابع "حمودة"، لـ"الوطن"، أن درويش كتب في تلك الفترة عن مدن كثيرة منها القاهرة وبيروت وتونس وباريس وغيرها، لكنها جميعا لم تكن بديلا لوطنه البعيد رغم قربه، في حياة المنفى، وفي تعبير درويش بإحدى قصائده: "كل البلاد بلادنا" تلخيص لا يخلو من سخرية أو أسى، لافتقاد بلده في كل البلدان"، مشيرا إلى أن شعر درويش في كل هذه المدن، يمثل مرحلة من أغنى مراحل شعره، وإن كانت مرحلة مليئة بالعذابات والأسى والحنين".
ويقول الروائي الفلسطيني ناجي الناجي، المستشار الإعلامي للسفارة الفلسطينية في مصر، إن درويش كان دائم القول "نحن نواجه الاحتلال داخل فلسطين كعرب وخارجها كفلسطينيين"، فتجول في المدن حاملا قضيته، ففي بيروت كتب عنها عاشقا مجموعة من أروع القصائد ففي ذاك الوقت كانت القضية الفلسطينية في أوجها فحمل حمل العودة معبرا عن حال بيروت جراء الاحتلال.
"ظهرت دموعه لأول مرة في تونس"، يتذكر "الناجي" المشهد الأصعب لدرويش يوم ظهرت دموعه للمرة الأولى في أمسية على المسرح البلدي، حيث أمن الشعب التونسي على أعز ما لديهم وهم "شهداؤهم"، ويؤكد الناجي أن من بين كل المدن نالت مصر خصوصية كبيرة لدى درويش،، فظهر ارتباطه بها من خلال قصيدتيه "تمر الساعات" و"أنا ابن النيل".
ارتباط "درويش" بالقاهرة كان منذ شبابه حين أمر له الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمكتب في "برج الحكماء" في جريدة الأهرام، والذي كان يضم أهم كتاب العصر وعلى رأسهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، الذي كتب عنه "درويش" نصا يقول فيه:
"رأيت نساء قادمات من أقاصي حرف الضاد يقبّلن يده، فيخجل ولا يعرف السبب، كأنه هو ولا هو في آن واحد. ثم يضحك ضحكة عالية، ويطلب سيجارة حان وقتها ليبدد بسحابة دخانها قداسة لا يصدقها ماكر مثله، وللناس التأويل. عاش ليكتب. ومنذ طعنه خنجر في الرقبة تخلى عن سرد التفاصيل بدأب النملة، واختار تقطير النحلة. من يومها، ونحن نجيء إليه مودعين، فالحياة انتبهت إلى نقصانها وسئم الموت التأجيل... دون أن نشي بذلك، ونحن من حوله في مركب على النيل، يوم الثلاثاء، لكن يوم الثلاثاء لم يعد موعدنا!".